
حين نتأمل في ظاهرة الانحراف وما يرافقها من آثار ممتدة، ندرك أنها ليست مجرد خروج بسيط عن السلوك السوي، بل هي انجرار متواصل خلف نزعات شخصية وشهوات خفية. يكبر هذا الانجراف حين تتعلق النفس بواحدة من تلك الميول التي تتسلل بخفة إلى مكامن ضعف الإنسان، فتستدرجه شيئًا فشيئًا إلى مساحات تتباعد عن الفطرة السليمة، ليطفو لاحقًا الجانب المعتم من السلوك البشري، حيث الانفلات من النظم والأصول التي تحفظ توازن الحياة ومسارها الطبيعي.
وإن تخلينا عن واجبنا في البحث عن الأسباب أو الاعتراف بها، نكتشف أن كل واحد منا يحمل في عنقه جزءًا من المسؤولية، كما يتحمل نصيبًا من نتائج الانحراف وتبعاته.
كثيرًا ما تبدأ بذور الانحراف في المراحل المبكرة من العمر، ثم تنمو بصمت داخل النفس، مستغلة نزوع الإنسان الفطري إلى استكشاف المجهول ومخالفة المألوف. ومع تراكم التجارب، يتسع الانزلاق نحو المسار الخاطئ، إن لم يتمكن الفرد من كبح رغباته، وترشيد ميوله، وضبط اندفاعاته بعزيمة صادقة وإرادة يقظة. غير أن الإرادة ليست متساوية عند الجميع، فالوهن الذهني والأنانية المترسخة قد يسيطران على التصرفات، لتكون الخطوة الأولى نحو التجربة الغريبة قوية وعارمة، فيغدو التعلق والانغماس أسرع مما يُتصور، من غير وعي بالعواقب التي قد تهوي به إلى مهاوي الانحراف.
كثيرون يعتبرون الانحراف مستنقعًا آسناً، من يدخل إليه يعلق في أوحاله، وقد لا يخرج منه إلا مثقلاً بندمٍ متأخر، بعد أن يكون الخراب قد وقع. ولأن نتائجه لا تقتصر على الفرد، بل تمتد لتطال المجتمع والوسط الأوسع الذي يعيش فيه، فإن الكلفة تكون باهظة، والتداعيات مدمرة.
والحقيقة أن كل انحراف له جذور ضاربة في عمق التربية والمعاناة والبيئة. إنّه نتاج تراكمات من حرمان وقسوة، أو توجيه تربوي فاشل، أو ضغوط اجتماعية خانقة. وقد أشار عالم الاجتماع إميل دوركهايم إلى أن الانحراف يتغذى من أنماط القهر التي تفرضها الظواهر الاجتماعية، من العادات الصلبة إلى غياب العدالة وتفشي الظلم.
ومع ذلك، لا ينبغي أن نكتفي بالتحليل العلمي البارد، بل علينا أن نتصدّر مشهد المحاسبة الذاتية. فالتصدي للانحراف مسؤولية جماعية تبدأ من البيت وتصل إلى المدرسة والشارع والدولة. على الجميع أن يتكاتف ليمنع هذا التآكل من التسرب إلى مفاصل الحياة اليومية، سواء أطلّ برأسه في السلوك الفردي أو الأداء الوظيفي أو في الاقتصاد والسياسة. فكلها في النهاية انعكاسات لانهيار القيم وتضخم الأهواء الخاصة على حساب المصلحة العامة.