اخبار ومتفرقات

زياد الرحباني: تمرد النغمة وحكمة الحرف في مرايا الوطن

في مسيرة الفن العربي الحديث، يقف زياد الرحباني كصوت خارج عن السرب، لا يُمكن تأطيره ضمن قالبٍ واحد، ولا يُمكن فصله عن التوترات العميقة التي شكّلت ملامح الواقع اللبناني والعربي. لم يكن زياد الرحباني مجرّد فنان أو ملحّن أو كاتب مسرحي؛ بل كان ظاهرة فكرية ـ موسيقية ـ سياسية، تجلّت فيها روحه الثائرة، ووعيه الطبقي، وسخريته السوداء، وعشقه الدفين لوطن مجبول بالوجع.

وُلد زياد الرحباني عام 1956 في بيتٍ تنفّست جدرانه الموسيقى، إذ كان نجل السيّدة فيروز والراحل عاصي الرحباني، أحد أعمدة المدرسة الرحبانية التي جمعت بين الشعر والمسرح والموسيقى والطوباويات الوطنية. غير أن زياد، منذ بواكير وعيه، لم يرضَ أن يكون ظلًا باهتًا لذلك الإرث العظيم. بل وقف في مواجهته، لا رفضًا له، بل استكمالًا له بروح نقدية جديدة، تمور بالقلق والتجريب، وتغزل على أنقاض “المدينة الفاضلة” لحنًا مشاكسًا، صادقًا، ممتزجًا بمرارة الواقع وسخرية الإنسان العربي من قدره.

انخرط زياد في عالم الموسيقى بأسلوب لا يشبه إلا ذاته. موسيقاه، المتأثرة بالجاز الغربي، والمقطوعات الكلاسيكية، تنصهر مع البيئة اللبنانية والفلكلور المشرقي، لتنتج توليفة هجينة، لا تعترف بالحدود. لم تكن موسيقاه ترفًا جماليًا، بل وسيلة تعبير عن الصراع الطبقي، وعن “الناس اللي تحت”، عن القهر والسخرية والخذلان. الأغنية الزيادية ليست مجرد مقطع موسيقي؛ إنها موقف فلسفي، وقضية، ونكتة مرة، وصرخة من لا صوت له.

في “بما إنو”، و”أنا مش كافر”، و”عايشة وحدها بلاك”، لم يكن زياد يكتب فقط، بل يُفكك الذات اللبنانية، ويضعها عارية أمام مرآة الوعي، ويُسائل وجودها في خضمّ التناقضات، من الطائفية إلى الانقسامات الطبقية والسياسية، إلى وجع الحرب والحبّ والخذلان.

أبدع زياد الرحباني في المسرح السياسي الساخر، حيث استنطق الخشبة لتُصبح فضاءً للفضح والمساءلة. من “بالنسبة لبكرا شو؟”، إلى “فيلم أميركي طويل”، و”نزل السرور”، كان المسرح عنده ساحة مواجهة، لا يُجامل فيها السلطة، ولا يهادن المتديّن، ولا يتعاطف مع البرجوازية المتعفّنة. شخصياته غالبًا ما تكون مكسورة، ضائعة، تمثّل الهامش، ولكنها تنطق بأعلى صوت في لحظة التعرية.

مسرحه امتداد لفلسفة “اللامعنى” عند بيكيت، ممزوجًا بسخرية بريشت، ومضمّخًا بنكهة لبنانية خالصة. المسرح الزيادي فلسفي الطابع، شعبي الروح، عميق المعنى، لا يبحث عن النهاية، بل يفضح العطب في البدايات.

لم يكن زياد يومًا فنانًا محايدًا. انتماؤه الواضح إلى الفكر اليساري، لا سيما الحزب الشيوعي اللبناني، لم يكن مجرد شعار، بل تجلّى في كل كلمة ولحن وموقف. كان مؤمنًا بالصراع الطبقي، وبالعدالة الاجتماعية، وبالوقوف في وجه الاستعمار والرجعية. غير أن زياد، حتى داخل الحزب، كان مقلقًا، إذ ظلّ يحتفظ بحقه في التفكير خارج الاصطفافات، والكتابة ضدّ الجميع حين تقتضي الحقيقية.

في كل أعماله، يُحسّ المستمع وكأن زياد يقف على حافة المعنى. هو العاشق لبلدٍ يدميه، والابن العاق لإرثٍ عظيـم، والمثقف الذي لم يتورّع عن خوض السوق التجاري بلغةٍ ساخرة لا تسقط في الابتذال. جمع في شخصه بين المتناقضات: الموسيقي الكلاسيكي والمتمرّد، المسرحي الثوري والابن المدلّل، العاشق الحالم والساخر من الحبّ.

في عالمٍ يزداد فيه الاصطفاف، يبقى زياد ظاهرة لا يمكن احتواؤها ضمن خطابات الهوية الجامدة. هو صوت الهامش، ومرآة الذات اللبنانية المهشّمة، وفلسفة الرفض المغلّفة بموسيقى.

الأسرار النادرة عن زياد الرحباني

زياد الرحباني شخصية تتسم بالغموض والعمق، بعيدًا عن الأضواء والإعلام، حيث كان يفضل الانعزال والانزواء بعيدًا عن الشهرة والنجومية. اختار فترات انقطاع طويلة عن الساحة الفنية كخطوة فلسفية للتجديد والابتعاد عن التفاهة التي سادت الفن التجاري، وكان يرفض الجوائز والاحتفالات الرسمية، معتبراً أن “الفشل” جزء طبيعي من تجربته. تأثر بالوجودية، خاصة بفلاسفة مثل سارتر وكامو، وهو ما انعكس في أعماله المسرحية التي تحمل طابع العبث واللاجدوى. علاوة على ذلك، فقد تأثر بشدة بالموسيقى الكلاسيكية الغربية التي كان يستمع لها يوميًا، وابتكر لغة مسرحية تجمع بين الشعر والحوار الشعبي. علاقته المعقدة مع والدته فيروز، وتوتراته العائلية، كانت وقودًا لصراعاته الفنية الداخلية. كان شديد الحساسية تجاه فكرة “النجومية” التي يخشى أن تسلب الفن حريته، واعتبر الموسيقى مساحة للتجريب النفسي والاجتماعي يعكس من خلالها اختلالات الواقع.

تحليل ونقد فلسفي لتجربة زياد الرحباني

تجربة زياد الرحباني تمثل نموذجًا فريدًا للفنان-المفكر الذي يحول الفن إلى فعل نقدي وفلسفي، يتحدى الأوضاع السياسية والاجتماعية بجرأة غير مسبوقة. فلسفته الفنية مستمدة من الوجودية والعبث، حيث يرفض الأجوبة السهلة ويطرح أسئلة وجودية عميقة حول معنى الحياة والحرية في مجتمع ممزق. مسرحه هو مختبر لوعي شعبي يدمج السخرية بالوجع، حيث تتشابك الطبقات الاجتماعية والتناقضات الطائفية في نسيج سردي معقد. موسيقاه التجريبية تعكس صراعات النفس والمجتمع، وتمثل جسرًا بين الحداثة والتقاليد، بين الفوضى والنظام. رفضه للنجومية والسيطرة على فنه يؤكد التزامه بالصدق والحرية، ما يجعله صوتًا فنيًا لا ينحني للضغوط أو لتسليع الإبداع. في جوهره، زياد الرحباني ليس فقط فنانًا بل ظاهرة ثقافية تطرح تساؤلات وجودية لا تزال تلهم وتحرك وعي الأجيال.

في اختيار زياد الرحباني لبلدة “الميدنة” في النبطية ملاذًا، يكمن سرٌّ لا يُفصح عنه صراحة، لكنه يتسرّب من بين نبراته الصامتة، كما يتسرّب الضوء من شقوق الجدران الطينية. لم تكن “الميدنة” مجرّد مكانٍ يرتاح فيه جسده، بل كانت بقعةً يتطهّر فيها من سموم المدن، من تزاحم الأقنعة، ومن خيانة الضجيج. هناك، حيث الصمت كثيف كالفكرة، كان زياد يخرج من جلده الاجتماعي ويعود إلى كيانه المجرد، إلى الإنسان كما ينبغي أن يكون: عارٍ من الألقاب، محرّرًا من معايير التصنيف، خاضعًا فقط لنبض الأرض وهمس الذاكرة. في الجنوب، بين التبغ والعتمة والسكون، مارس زياد طقسًا صوفيًا من نوع آخر، لم يسعَ فيه إلى الله بل إلى الإنسان، إلى ذاك الذي لم يلوثه خطاب ولا هويّة مسبقة. “الميدنة” لم تكن مكانًا يُزار، بل فضاءً يُخلّق فيه المعنى، وهناك، حيث لا جمهور ولا كواليس، أعاد تركيب ذاته خارج زمن الشهرة، خارج الزمن اللبناني المتآكل بين الطوائف والدكاكين. اختبأ في هامش الجغرافيا كي يعيد تعريف المركز، ونفى نفسه عن العاصمة لا هربًا، بل احتجاجًا فلسفيًا صامتًا ضد خيانة الفكرة. 

زياد ليس فقط موسيقيًا أو كاتبًا، بل هو أشبه بـ”لازورد الوجع اللبناني”، تركت نبراته ندوبًا في وجداننا، لأنه لم يهادن. إن الحديث عن زياد هو حديث عن الإنسان العربي في عجزه، ومجده، وتمرده، وسخريته من قدرٍ يشبه المتاهة. قد نختلف مع مواقفه، لكننا لا نستطيع إنكار أثره؛ هو من القلائل الذين حوّلوا الفن إلى مرآة تُعري الواقع، لا تُجمّله.

دلال موسى

المقال يعبر عن رأي الكاتب وليس رأي الموقع، شكرا على المتابعة.

زر الذهاب إلى الأعلى