
أثبتت كثير من الوقائع والشواهد التاريخ حقيقة لا لبس فيها، وهي أنَّه قديما وحديثا (المتغطي بروسيا عريان) تماما كالمتغطي بالأمريكان؛ إذ لا يخفى على المراقب أنَّ الاحتماء بها كالمحتمي بدبٍّ من قشّ يخرُّ فور الاتكاء عليه؛ وأنَّ الاستناد إليها كالاستناد إلى تمثالٍ من الثلج في قيظ الصيف يذوب بين يديك ساعة الحاجة، أو كمن يتوسَّد رُمْحًا؛ فلا هو وسادة، ولا هو نصل أمان.
فـ(روسيا) بكل أشكالها؛ سواء الإمبراطورية سابقا، أم الجمهورية السوفياتية بعد ذلك، أم الاتحادية لاحقا، لم تكن يومًا ما حليفًا صادقًا يمكن التعويل عليه، بقدر ما كانت دولةً تتحرَّك وِفْقَ مصالحها الحامية والباردة، ولو على حساب أقرب حلفائها، مهما بلغ ولاؤها وتبعيَّته لها. فالتجارب التي خاضتها دولٌ ركنت إلى الدعم الروسي، كانت في الغالب تنتهي بخذلانٍ مُرٍّ، أو احتلالٍ ناعم يتسلَّل تحت لافتة (الحماية) و(الدعم الاستراتيجي).
الشواهد_التاريخية
تنبيه هامٌّ:
الشواهد التي سنذكرها، سنتعرَّض فيها لحقائق تاريخية، نقصد من خلالها تبيان خذلان الروس لحلفائهم، ولا نقصد فيها البتَّة وبأي وجه كان، أنَّ حلفاء (روسيا) أو خصومها كانوا في هذه الشواهد على حقٍّ أو على باطل؛ فهي كالأمريكان وسائر الدول (البرغماتية) تتحالف وتتخاصم وِفْقَ ما تتطلَّبه أغراضها فحسب؛ أي بميزان مصلحتها المطلقة، لا بميزان الحقِّ والباطل. فاقتضى التنويه.
١. كوبا (أزمة الصواريخ ١٩٦٢):
في أَوْجِ الحرب الباردة، ظنّ (فيديل كاسترو) أنَّ وجود صواريخ سوفياتية في بلاده، تمثُّل ضمانة ضد العدوان الأمريكي. لكن حينما اشتدَّت الأزمة، عقدت (موسكو) صفقة مع واشنطن على حساب العاصمة الكوبية (هافانا)، وسحبت الصواريخ دون حتى استشارة الحليف الكوبي، ممِّا كشف عن هشاشة الاتكال على الدبِّ السوفياتي.
٢. أرمينيا (حرب أذربيجان ٢٠٢٠):
خلال حرب (ناغورنو كاراباخ) الثانية، لم تفِ (روسيا) بتعهداتها الأمنية، رغم أنَّ (أرمينيا) عضو في (منظمة معاهدة الأمن الجماعي) التي تقودها (موسكو)؛ وذلك حين هاجمتها (أذربيجان) وبدعم (تركيا)؛ حيث تركت (روسيا) العاصمة الأرمينية (يريفان) تقاتل وحدها، ثمَّ تدخَّلت متأخِّرة بعد أنْ أُرغمت (أرمينيا) على توقيع اتفاق مذلٍّ، ممَّا زعزع ثقة الأرمينيين بحليفهم الروسي الاستراتيجي.
٣. أفغانستان (١٩٧٩ – ١٩٨٩):
ظنّ الشيوعيون الأفغانُ أنَّ استدعاء الدعم السوفياتي سيحفظ نظامهم، لكنْ دخول الجيش الأحمر لم يُنْهِ الصراع، بل ساهم أكثر في إشعال فتيل تفجيره، وأدَّى إلى حرب كارثية دامت عقدًا، أسقطت النظام، وأنهكت الاتحاد السوفياتي نفسَه، وساهمت في تفكُّكه لاحقًا.
٤. مصر (١٩٦٧ – ١٩٧٣):
تعدَّدت مَوَاطِنُ خذلان الروس للمصريين، نذكر منها:
– (خذلان روسيا لمصر عبد الناصر في نكسة ١٩٦٧)
فقبل حرب (يونيو / حزيران ١٩٦٧)، قدَّمت المخابرات السوفياتية معلومات مغلوطة للمصريين عن حشود إسرائيلية مزعومة على الحدود السورية، ممَّا دفع (عبد الناصر) إلى خطوات تصعيدية؛ مثل: (إغلاق مضيق (تيران)، وسحب قوات الطوارئ الدولية…)، فتأتَّى عن ذلك هزيمة سريعة للمصريين في (٥ يونيو / حزيران ١٩٦٧)، من أسبابه خذلان سوفياتي صريح للمصريين؛ إذ لم تتدَّخل (روسيا) لحماية (مصر) رغم علاقتهما الاستراتيجية المفترضة بها، وإنَّما اكتفت بالإدانة السياسية دون أيِّ دعم عسكري حاسم أو رادع يُوقف الاجتياح الإسرائيلي، بل الأسوأ من ذلك، هو ورود تقارير تفيد بأن الاتحاد السوفياتي كان على علم بالضربة الإسرائيلية الأُولى (ضرب المطارات)، ولم يبلغ (مصر).
– (وقف الدعم الجوي لمصر السادات أثناء حرب أكتوبر / تشرين الأول ١٩٧٣)
فبعد نجاح (مصر) في عبور (قناة السويس)، احتاجت إلى غطاء جوي للتقدُّم نحو المضايق في (سيناء). لكن الاتحاد السوفيتي رفض إعطاء (مصر) منظومات متطوِّرة (مضادة للطيران) بكثافة كافية؛ مثل طراز (سام-6)، ورفض إرسال طيارين أو مستشارين كما في المرحلة السابقة للحرب، فترتَّب على ذلك استعادة الكيان الصهيوني المبادرة بقيادة (أرييل شارون)، بينما لم يكن الجيش المصري يمتلك الحماية الجوية الكافية لردع الهجمات الإسرائيلية العميقة.
– (فرض وقف إطلاق النار دون استشارة مصر في أكتوبر / تشرين الأول ١٩٧٣)
فبعد دخول الحرب مرحلة حرجة (ثغرة الدفرسوار)، عمد (الاتحاد السوفياتي) و(الولايات المتحدة) إلى فرض قرار وقف إطلاق نار فوري في مجلس الأمن، ولكن دون مشاورة حقيقية مع القيادة المصرية، ممَّا قيَّد الجيش المصري على الأرض. وهذا ما أغضب السادات لاحقًا، فبدأ تدريجيًّا بالمَيْلِ نحو (الولايات المتحدة الأمريكية) بدلاً من (الاتحاد السوفياتي).
٥. سوريا (منذ ٢٠١١):
اتَّكأ النظام السوري على (روسيا) لمواجهة الثورة السورية التي اندلعت في (١٥ مارس / آذار ٢٠١١)، فما كانت النتيجة؟
صحيح أنَّ (موسكو) أبقت النظام السوري في الحكم، لكنَّها أبقت عليه بلا حَوْلٍ ولا قوَّة؛ حيث فرضت عليه تبعيَّة كاملة لإدارتها الساحة السورية؛ إذ تحوَّلت (سوريا) إلى ساحة نفوذ روسيٍّ بامتياز، تُدار وِفْقَ تفاهمات خارجية، لا محل فيها للقرار السوري المستقل حتى في دفاعها عن نفسها في وجه الاعتداءات الإسرائيلية، خصوصا في مجال استخدام الأسلحة الروسية التي اشتراها النظام السوري؛ كمضادات الطائرات التي لم تُفَعَّل لصدِّ هجمات الطائرات الإسرائيلية، والتي بقيت لأكثر من عقد تسرح وتمرح في الأجواء السورية معربدة دون أيِّ رَدْعٍ. ويتَّصل ذلك بمجموعة من الحقائق (الجيوسياسية) و(العسكرية)، تجمع بين الوقائع العسكرية والمصالح السياسية الروسية في المنطقة. ومن أمثلته:
– (أنظمة دفاع جوي S-300)
وهو نظام دفاع جوي متطوِّر سلَّمته (روسيا) لـ(سوريا) عام ٢٠١٨ بعد إسقاط الطائرة الروسية (إليوشين-20). ولكنْ لم يُسجَّل استخدامه الفعليُّ والمؤثِّرُ ضد الطائرات الإسرائيلية رغم تكرار الضربات وتتابعها، حتى في الضربات الجوية الكبرى؛ مثل استهداف (مطار دمشق) أو مواقع في (مصياف)؛ حيث لم تُسجَّل أيَّة محاولات تَصَدٍّ من منظومة (S-300)، رغم قربها من مواقع الهجوم.
– (نظام S-200 (SA-5))
وهو نظام دفاع جوي أقدم من سابقه، استخدمته الدفاعات السورية في عدَّة مناسبات، ولكنْ بكفاءة محدودة فشلت في إصابة الطيران الإسرائيلي.
– ( نظام Pantsir-S1 (SA-22))
وهو نظام مضاد للصواريخ قصير ومتوسط المدى، انتشر في مواقع عديدة، واستُخدم ضد صواريخ إسرائيلية في بعض الضربات، ولكنْ بلا نتائج قيِّمة.
وقد عَزَتِ التقارير الاستخباراتية السرَّ وراء عدم استخدام هذه الأسحلة أو إخفاقاتها إلى عدَّة عوامل، منها:
أوَّلًا:
تحكُّم روسيا بمنظومات (S-300)؛ حيث لم تكن تملك (سوريا) حرية التشغيل المستقلِّ لها.
ثانيًا:
وجود اتِّفاق ضمني أو تنسيق (روسي – إسرائيلي) يسمح للكيان الصهيوني بضرب أهداف عسكرية في (سوريا)، وإستباحة أراضيها لتكون مسرحًا للاغتيالات من دون أيِّ اعتراض روسي.
ثالثًا:
أولوية روسية للحفاظ على توازن بين تحالفها مع النظام السوري من جهة، وعلاقتها المتينة مع الكيان الصهيوني من جهة أخرى.
رابعًا:
سياسة روسية بعدم التصعيد الذي قد يهدد وجود قوَّاتها أو مصالحها في (سوريا).
خامسًا:
خشية روسية من فشل أنظمتها أمام التكنولوجيا الإسرائيلية، ممَّا يحرجها في سوق الأسلحة، خصوصًا أنَّ الكيان الإسرائيلي يستخدم تقنيات تشويش وتخفٍّ متقدِّمة.
٦. إيران (٢٠٢٥)
في (١٣ حزيران / يونيو ٢٠٢٥)، اندلعت حرب قصيرة لكنَّها ضارية بين (إيران) من جهة، و(الكيان الصهيوني والولايات المتحدة) بل كل حلفائهما الغربيين وغيرهم من جهة أخرى.
استمرت الحرب ١٢ يومًا، تميَّزت بغارات مكثَّفة على مواقع استراتيجية ونووية إيرانية، فضلا عن مجموعة من الاغتيالات التي أودت بحياة العديد من العلماء النوويين والقادات العسكريين من الصف الأول. وهنا تجلى بوضوح خذلان (روسيا – أبو علي بوتين) لإيران على عدَّة مستويات:
أوَّلًا: (الصمت العسكري والتقني الكامل للروس)
فرغم الشراكة الاستراتيجية المعلنة بين (موسكو) و(طهران)، لم تقدِّم (روسيا) أيَّ دعم دفاعي أو استخباراتي لها خلال الضربات الأميركية والإسرائيلية، ظهر في عدم تزويد (إيران) بأيَّة معلومات إنذار مبكر عبر الأقمار الاصطناعية، وكذا في عدم تفعيل منظومات الإنذار أو الدفاع الجوي التي تملكها (روسيا) في (سوريا) و(بحر قزوين).
ثانيًا: (الخذلان العسكري والاستخباراتي في ملف المنشآت النووية)
حينما استُهدفت المنشآت النووية الإيرانية كـ(نطنز وفوردو) بغارات دقيقة وقنابل (GBU – 57) الخارقة للتحصينات، نُفِّذَتْ بالتنسيق (الأميركي – الإسرائيلي)، وقفت (روسيا) موقف المتفرِّج، رغم علمها المسبَّق بالتحركات الجوية، بل لم تبذل (موسكو) أيَّ جهد حقيقي عسكري أو معلوماتي لحماية هذه المنشآت، رغم أنَْها مساهِمَة ولو جزئيًا في تطوير بعض هذه المنشآت ولو فنيًا على أقل تقدير، ممَّا فُسِّرِ بأنَّه تخلٍّ ضمنيٌّ عن التزاماتها النووية تجاه (طهران)، وكشف عن أنَّ “الاتجاه شرقًا” لمواجهة الغرب، هو أشبه بالتمسُّك بحبال ذائبة، وأمل بسراب يحسبه الظمآن ماءً.
ثالثًا: (الخذلان السياسي الروسي لإيران)
اقتصر رد الفعل الروسي على الاعتداءات (الإسرائيلية الأميركية) على بيانات دبلوماسية باهتة تدعو إلى (ضبط النفس) و(منع التصعيد)، دون إدانة (مباشرة) للكيان الصهيوني والولايات المتحدة، بل لم تستخدم روسيا حقَّ النقض (الفيتو) في (مجلس الأمن) في وجه هذا الاعتداء الصُّراح، ولم تسعَ لعقد جلسة طارئة جادَّة للدفاع عن سيادة حليفتها (إيران)، بل رأينا تجاهلا لوسائل الإعلام الروسية الموالية للـ(كرملين) لمعظم تفاصيل الهجمات، أو تبريرا ضمنيًّا ضمن سياق (الردع الإسرائيلي) تجاه المشروع النووي السلمي الإيراني.
وقد كان لهذا الموقف الروسي في حرب الـ(١٢ يوما) دلالات صارخة أثبتت أنَّ التحالف (الروسي – الإيراني) – وإنْ لم يكن تحالفًا دفاعيًّا مشترَكا – تحالفٌ هشٌّ ومصلحيٌّ، قائمٌ على تقاطع مصالح ظرفيٍّ، لا على التزامات دفاعية. وأظهر – بما لا يرقى إليه الشكُّ – أنَّ (موسكو) لن تغامر بمصالحها مع (إسرائيل) و(الغرب) من أجل (إيران)، مهما بلغت هذه الاستهدافات خطورة.
وهكذا كانت حرب (يونيو / حزيران ٢٠٢٥) لحظة فارقة في علاقة (طهران) و(موسكو)، كشفت حدود الدعم الروسي الذي لم يتجاوز في لُبِّه ومداه وتأثيره الاستراتيجي حدود التصريحات الدبلوماسية الخاوية الواهية، وأكدَّت أنَّ الاعتماد على (روسيا) في وقت الشدَّة، لا يعني سوى العُرِيِّ والخذلان.
خاتمة
لا ينبغي للعاقل أنْ يشكَّ في أنَّ (روسيا) ليست حليفًا بالمفهوم الأخلاقي أو الاستراتيجي، وإنَّما هي دولة رائدة في السياسة (البراغماتية)، تُحسن اللعب على التناقضات، وتُجيد بيع الأوهام مقابل النفوذ.
وهكذا اتضح للشاهد العرفي أنَّ من يتغطى بالدبِّ الروسي قد يشعر بالدفء هنيهة، لكنَّه سرعان ما يتكشَّف أمام مهبَّ ريح التحديات؛ فالذين وثقوا بـ(روسيا) خُذلوا، والذين سلَّموا لها مفاتيح بلادهم، استفاقوا ليجدوها قد أُوصدت الأبواب في وجوههم محتفظة بالمفاتيح لنفسها، وتاركة لهم هَمَلا عراة حتى دون ورقة توت على مذبح المصالح التي لا تعرف قِيَمًا وعَهْدًا وذِمَّةً.
د. السيد حسين الحسيني
المقال يعبر عن رأي الكاتب وليس رأي الموقع، شكرا على المتابعة.