
أعرفُ منذ البدء أنّ هذا المقال لن يروق للبنانيين جميعًا.
منذ قرنٍ من الزمن، هتف جبران خليل جبران من منفاه في أميركا:
“ويلٌ لأمة مقسمة إلى أجزاء، و كل جزءي يحسب نفسه فيها أمة”
قالها كمن أطلّ بروحه على الماضي، فرأى اللبنانيين طوائف ممزقة،
ثمّ سار بخياله الى المستقبل، فإذا بهم بعد مئات السنين… طوائف ممزقة.
في متاهات هذا الشرق الذي لا ينام، يبقى لبنان، تلك الرقعة الصغيرة من الأرض، مسرحًا أبديًا لتراجيديا التناقضات. هنا، حيث تتبدل الولاءات وتتقاطع المصالح، لا يتغير الجوهر إلا بقدر ما يتبدل الطائفيون على خشبة التاريخ. إنها ليست حكاية زعيمين وحسب، بل ملحمة شعبٍ تلونت قناعاته بألوان الطيف والطوائف والطائفية، وتعلّم فنّ النسيان حتى الثمالة.
كم هو مثير أن نتذكر! الرئيس بشير الجميّل، ذاك الشاب الماروني، الذي أطلق سهام نقده تجاه العروبة، واصفًا العرب بأوصاف قاسية قد تخدش مسامع “الممانعين” اليوم. ومع ذلك، لم تُمسّ وحدة وطنية، ولم يهبّ أحد للدفاع عن “الاقتصاد اللبناني”، بل اعتبر الموارنة ومعهم جمهور واسع من المسيحيين أن موقفه ذاك وطنيّ بامتياز، ينمّ عن شجاعة وإقدام في وجه “الخونة”.
لكن الأيام دارت. فإذا بالسيد حسن نصرالله، ذاك الشيعي الذي لم يخرج من فمه لفظ نابي بحق العالم العربي، يكتفي بالاعتراض على سياسات بعض الأنظمة التي هرولت نحو التطبيع والتخلي عن فلسطين، فتقوم القيامة. المسيحيون عامة، والموارنة خاصة، اتهموه بعزل لبنان، والإساءة لعلاقاته العربية، فيما ارتفعت أصوات من الطائفة السنيّة الكريمة لتتهمه بالخروج عن “الإجماع العربي”. أليس في هذه المفارقة وجع مُرّ يفضح زيف الموازين الطائفية؟
في 23 آب 1982، قبل استشهاده بشهر قال الرئيس بشير الجميّل عبارته الشهيرة:
“تحضّروا لكل الاحتمالات، كل العالم رح يتآمر علينا تيجيبوا رئيس جمهورية يمرق مصالح العالم قبل ما يمرق مصالح لبنان.”
كشف يومها عن مشروع أمريكي يقضي بتقسيم لبنان بين الفلسطينيين والسوريين: إعطاء الدامور للفلسطينيين لقاء فلسطين المحتلة، والبقاع لسوريا مقابل الجولان. صفق له اللبنانيون، وعدّوا كلامه قمّة الوطنية والتمرّد المشروع على الإملاءات الخارجية.
بالامس وقبل استشهاده ايضا بشهر ردد السيد نصرالله المطلب ذاته: رئيس يقدم مصالح لبنان على مصالح أمريكا. فإذا به يُتهم بأنه يريد رئيسًا تابعًا لإيران وسوريا. فما كان بالأمس وطنية صار اليوم عمالة، وما عُدّ تمرّدًا أصبح تبعية. أليست هذه كبرى المفارقات؟
في 1976، حين بلغ الموارنة أن أمريكا فوّضت حافظ الأسد لإدارة الأزمة اللبنانية، أدركوا أن سوريا إذا دخلت لبنان “لن تخرج منه”. فاصبحوا امام معادلة الرئيس سركيس وافق على الشروط الامريكية وسوريا تريد الغاء دورهم والفلسطنيين يحاصرونهم من الشمال والجنوب وطريقهم نحو القدس يمر بجونية، والقوى الوطنية اللبنانية تقاتلهم في مختلف المدن اللبنانية تحت شعار اليمين المسيحي الانعزالي، عندها اختاروا المواجهة، ورأوا فيها “انتحارًا سياسيًا” ووجوديا لكنها بطولة في سبيل وحدة لبنان.
اليوم، حين يقول الشيخ نعيم قاسم بوضوح إنه إذا وصلت الطائفة الشيعية إلى ذات النقطة ستكون هناك “مواقف أخرى”، قامت الدنيا ولم تقعد. عُدّ الكلام تهديدًا وجرًّا للبنان نحو الخراب. والغريب أن الذين صفقوا بالأمس لبشير الجميل لانتحاره من أجل لبنان، هم أنفسهم الذين يهاجمون اليوم حزب الله على موقف مشابه.
حين أُغلقت الأبواب العربية في وجه بشير من اجل مده بالسلاح لمقاتلة الفلسطينيين واخراج السوري، لجأ إلى إسرائيل. يومها، كانت إسرائيل حليفًا، وسوريا عدوًا حتى للطائفة السنية.
ايضا عندما اغلقت الابواب العربية في وجه اهالي الجنوب من اجل تحرير ارضهم من العدو الاسرائيلي لجأ الشيعة الى ايران، لكن لعبة الطوائف لم تتوقف: اليوم صارت إيران العدو الأكبر، وصار البعض يطالب بالسلام مع إسرائيل، فيما تحوّلت سوريا ــ عدو الأمس ــ إلى حليف عند فريق واسع من المسيحيين والسنة. بل ويُلام حزب الله على خصومته مع دمشق، مع أن ما تبدل ليس جوهر الشعب السوري بل شخص حاكمه. أليس هذا قمة العبث والانتقائية التي تميز العقل السياسي اللبناني؟
الرئيس الجميل في بداياته أعلن نيته تحويل لبنان إلى “جمهورية مسيحية”. والسيد نصرالله، في بدايات حزب الله، أعلن طموحه إلى “جمهورية إسلامية”. لكن كليهما، عند ذروة التجربة، عاد ليقول: لبنان وطن لجميع أبنائه، مسلمين ومسيحيين. فلماذا خصوم الحزب يتناقلون خطاب السيد نصرالله على انه مشروع لتغيير لبنان، بينما يعتبر خطاب الرئيس بشير انه قمة الرئيس التفهم لانه بعد تنصيبه رئيسا قال لبنان لكل اللبنانيين مسيحيين ومسلمين.
الرئيس بشير الجميل حينها رفض خطابه من قبل فئة من اللبنانين وقيل انه حليف لاسرائيل، وايضا خطاب السيد نصرالله رفض من فئة وقيل انه حليف لايران، فهل هي قناعة أصيلة، أم حسابات سياسية تتبدل بتغير موازين القوى؟
حتى الإصبع الذي كان بشير يرفعه في خطاباته، فغدا رمزًا للعزيمة، صار أنشودة لأنصاره. أما إصبع نصرالله المرفوع، وإن لم يُنفض بالحدة ذاتها، فقد صار عند خصومه استفزازًا. وكأن الإصبع ذاته يغيّر دلالته بحسب اليد التي ترفعه.
لم يثق المسيحيون يومًا بالعروبيين، أولئك الذين اصطفّوا إلى جانب صدام حسين، يهيّجون العالم العربي على إيران، فيما كان صدام نفسه يمدّ القوات اللبنانية ــ الحليف المعلن لإسرائيل ــ بالمال والسلاح. سقط صدام، فانتقل العروبيون أنفسهم إلى ضفة إيران، وأضحوا خصوم الأمس أصدقاء اليوم، متّهمين صدام بما كانوا يصفونه بالأمركة. ومع ذلك، ظلّ المسيحيون على ريبتهم، لا يطمئنون إلى تبدّل هذه الولاءات.
أما الشيعة، فكانوا في بحثٍ دائم عن صوتٍ من خارج طائفتهم يعبّر عنهم، كأنّهم يرون في الكلمة الغريبة اعترافًا بوجودهم، فيرفعون صاحبها إلى مصاف الحكماء، يكرّمونه ويبجّلونه، وكأنّهم في حاجةٍ إلى سندٍ خارجيّ يثبت ركائز حضورهم في وطنٍ مأزوم.
إن الشعب اللبناني، بعقله الممزق، يمتلك قدرة استثنائية على ظلم قادته، ليس عن قصد دائمًا، بل بفعل عمى الانقسام وصمم الذاكرة. فما أشبهنا بأمةٍ تنظر في مرآة مشوهة: ترى نفسها، لكنها لا ترى حقيقتها.
التاريخ يصرخ: لقد حدث هذا من قبل، وسيحدث مرة أخرى ما لم نتعلم.
إن لبنان، كما رآه ميشال شيحا، “فكرة قبل أن يكون وطنًا”، وكما نادى به شارل مالك، “رسالة حرية في الشرق”. لكننا إذا استمررنا في خيانة هذه الفكرة وهذه الرسالة، فسيبقى قدرنا أن ندور في الدوامة عينها: نسمّي البطولة خيانة، والخيانة بطولة، ونظل أسرى لعبة الكراسي التي لا تنتهي.
المقال يعبر عن رأي الكاتب وليس رأي الموقع، شكرا على المتابعة.