
لم يحدث طيلة ثلاثة عقود أن سُجِّل عليّ موقف ضد أي شخصية لبنانية. حتى مع الذين اختلفت معهم في السياسة، كنت أحرص على البحث عن الأفعال الإيجابية في داخلهم وفي مواقفهم، لأنّ كل نقطة قوة في أيّ مواطن من أبناء بلدي، هي في النهاية نقطة قوة وعزّة لوطني.
كل شيء يجمع الوطن انا معه، فالانتماء إلى الوطن ليس شعاراً يُرفع عند الحاجة، بل هو فعل التزام يومي يُلزمنا جميعاً، مع اختلاف مشاربنا وانتماءاتنا، أن نصون ما يجمع ولا نذكي ما يفرق.
ما جرى من اعتراض على وضع صورة الشهيد السيّد حسن نصرالله على صخرة الروشة، لا يُختصر في رفض لصورة أو لشخص، بل يكشف جرحاً أعمق اسمه العصبيّة الطائفية والمناطقية. هذا الداء الذي يجعل اللبنانيين، في عيون العالم، كأنهم شعوب صغيرة متناحرة، بدل أن يكونوا شعباً كبيراً برسالته وثقافته وحضوره الحضاري.
ليس المطلوب أن يُحبّ اللبنانيون قائداً أو رمزاً واحداً، فهذا شأن شخصي وحرية طبيعية. لكن المطلوب وطنياً أن نحترم رمزية أي شخصية، ما دامت تعبّر عن شريحة من أبناء هذا الوطن. فالاستخفاف برموز جزء من اللبنانيين هو استخفاف بلبنان نفسه، وبفكرة العيش المشترك التي قامت عليها الجمهورية.
يكفي أنّنا جميعاً تقاعسنا ـ أو كاد أكثرنا ـ عن الدفاع عن أطفال ونساء غزّة الذين يعيشون منذ ما يقارب العامين الموت والوجع والحصار والجوع، بينما العالم بأسره يدين الجرائم الإسرائيلية. في المقابل، سقطت مقولة أنّ المقاومة هي من جلبت الدمار إلى لبنان، بعدما أثبتت الوقائع أنّ إسرائيل لا تتورع عن ضرب العواصم العربية نفسها، من قطر إلى سوريا، وأنّ عدوانها وتمددها مسألة وقت لا أكثر. وهنا يظهر عمق الرؤية الاستراتيجية للمقاومة التي أدركت باكراً أنّ لبنان سيكون هدفاً دائماً، وأنّ حماية الوطن لا تكون إلا بالتصدي لا بالحياد الموهوم.
أمام هذا المشهد، أقلّ ما يفرضه علينا الانتماء الوطني والكرامة الإنسانية أن نلتقي جميعاً لنقول كلمة شكرٍ لمن وقف في وجه هذه الآلة الجهنمية، ومن تجرّأ حيث صمت الآخرون، ومن واجه الموت دفاعاً عن فلسطين وعن العرب، بينما اكتفى كثيرون بالفرجة أو بالإنكار أو بالخوف.
ليس المطلوب من الجبناء أن يرفعوا قبضاتهم، ولا أن يشاركوا الأبطال صعودهم نحو السماء. لكن المطلوب، على الأقل، ألّا يُعمّموا جبنهم على اللبنانيين والعرب واحرار العالم، وألّا يحاولوا إسقاط خوفهم وهزيمتهم الداخلية على وطنٍ صُنع من البطولة والشهادة والتضحية.
لبنان، عبر تاريخه الطويل، لم يُخلّد إلا الأبطال. فكما خَلّد التاريخ القائد الفينيقي القرطاجي حنبعل كقائد لبناني منذ أكثر من ألفي عام، سيبقى السيد حسن نصرالله، الذي وُلد من هذه الأرض وعاش على ترابها وضحّى من أجلها، قائداً لبنانياً عظيماً يتجاوز حضوره حدود اللحظة والزمن. سيبقى رمزاً من رموز هذه الأرض العتيقة كأرز الرب وعواميد بعلبك وصخرة الروشة، وان رجال لبنان ابطال صناديد شجعان، وسيظل بعد مئات بل آلاف السنين شاهداً عظيما على عظمة لبنان وبطولة أبنائه وتضحياتهم.
ولأنّ الأوطان لا تُبنى على العصبيات الضيقة، بل على وحدة الدم والتاريخ، فإنّ الإساءة إلى رمزية أي شهيد لبناني هي إساءة إلى لبنان كلّه، وإلى معنى الانتماء ذاته. إنّ رفض صورة لا يُلغي حضور صاحبها، لكنّه يفضح ضيق الأفق، ويكرّس ما يهدّد وحدة لبنان: الطائفية والاجتماعية والميثاقية.
فلنحذر: الإساءة إلى رمز أي فئة لبنانية، هي إساءة إلى الوطن كلّه، وكل عاقل فهيم وطني سيرفضها.
المقال يعبر عن رأي الكاتب وليس رأي الموقع، شكرا على المتابعة.