
لقد أثارت دهشتي قائمة من الأسماء التي جمعتها إحدى الصحافيات، ضمت محللين وإعلاميين وسياسيين وحتى منجمين، جميعهم يتحدثون عن حرب كبرى ستطال لبنان في مطلع العام الجديد.
للأسف، إن تصديق مثل هؤلاء يشكل خطرًا داهمًا، ليس بسبب التهديد بالحرب في حد ذاته، بل لما وصل إليه العقل اللبناني من تدجين واستسلام للأوهام.
بكل بساطة، غالبية هؤلاء الذين يتحدثون ليل نهار عن الاستراتيجيات الدولية والتحليلات المعقدة، هل قرأ أحدكم مقالاتهم السابقة؟ وهل لاحظ حجم الفظائع الفكرية في تحليلاتهم غير المنطقية، وانفصالهم التام عن الواقع، وحجم أخطائهم المتكررة؟ لم يصدقوا في كلمة أو مقال واحد. من يصدق هؤلاء هو شخص منفصل عن الواقع.
هل سألتم أنفسكم من هم؟ وما هو حجم علاقاتهم الدولية أو تواصلهم مع النخب، ليتمكنوا من الحصول على معلومات موثوقة تستحق أن نمنحهم دقيقة واحدة من وقتنا؟
والأهم من كل ذلك، أن هؤلاء بغالبيتهم لا يفقهون شيئًا، ولا يميزون بين الكلمات، خاصة فيما يتعلق بمقابلة توم باراك، الذي اعترف علنًا بأنه لا حرب قريبة، وأن أمريكا غير مستعدة للتضحية بجرح إصبع واحد من جنودها في الشرق الأوسط.
ولنفترض أننا اتفقنا على أن هذا الطاقم الذي يُهول بالحرب لا يفقه شيئًا. طيب، أنتم الذين استمعتم إلى كلام باراك المترجم إلى العربية، ألا توجد لديكم آليات للتحليل لفهم ما يقول؟ مع انه تحدث بصراحة يدركها حتى الطفل.
ماذا قال باراك؟
1. حول الصراع في المنطقة ومستقبل السلام:
يقول باراك: “لم يكن هناك سلام قط. وربما لن يكون هناك سلام أبدًا لأن الجميع يقاتلون من أجل الشرعية. لذا يقول الناس، إنهم يقاتلون على الحدود. ليس هذا ما يقاتلون عليه. الحدود هي عملة التفاوض. النتيجة النهائية هي أن شخصًا ما يريد الهيمنة، مما يعني أن شخصًا ما يجب أن يخضع في ذلك الجزء من العالم. لا توجد كلمة عربية للخضوع. لا يمكنهم استيعاب فكرة الخضوع. لذا، في النهاية، الازدهار هو الحل الوحيد.”
((((هذا الكلام يعني أن العالم العربي سيكون بلا حدود، سواء بالحرب أو بالسلام مع إسرائيل. فالدول العربية لم يعد بينها وبين إسرائيل حدود بالمعنى التقليدي، فاليوم الإسرائيلي يدخل أي دولة عربية باستثناء لبنان وربما العراق، وما تبقى لا توجد حدود.
يعني أن لبنان أمام خيارين: إما السلام أو الحرب، ونحن من يختار. وهذا الاختيار لديه متسع من الوقت، قد يتجاوز الشهر السادس أو السابع من عام 2026.))))
2. حول دوره كمبعوث أمريكي:
قال توم باراك: “ليس ضمن السياق الوظيفي أن أعطي وجهة النظر، لكنني سأعطيك وجهة نظري الشخصية. وأنا أعرف لأنني أتعامل معهم كل يوم.”
(((لفهم كلام باراك هذا، يمكنكم مراجعة مقال لي نُشر في 4 يوليو 2025، جاء فيه: “باراك، المبعوث الأمريكي، ليس مفوضًا بالتفاوض مع أحد، بل هو مجرد ناقل للرسائل. التفاهمات الفعلية تُحضَّر لتُسلَّم لفريق جديد، سيُكلَّف بالملف اللبناني خلال السنوات الأربع المقبلة.”
من خلال مراجعة هذا المقال، يمكنكم فهم كل ما يحدث وما سيحدث في المستقبل، وكيف يفكر توم باراك.)))
3. حول الوضع الداخلي اللبناني:
يقول باراك: “لقد عانوا لمدة خمسة عقود من أشد الفساد في أي كيان حاكم يمكن أن تتخيله. الآن، لديك مجموعة جيدة في مكانها الآن. أعتقد أنها حسنة النية في رأيي، وليست من ذلك النوع، لكن لديك بنك مركزي مفلس. لديك نظام مصرفي به فجوة بقيمة 70 مليار دولار. ليس لديك كهرباء. ليس لديك جمع نفايات. لديك نظام طائفي مبني على هذا الانتداب الفرنسي الذي لم يعمل منذ وضع الانتداب الفرنسي عام 1946.”
(((كلام باراك هذا هو الأساس. وعندما تراجعون مقالي الذي نُشر قبل شهرين، ستجدون وصفًا دقيقًا وتشريحًا لما تحدث عنه باراك. أنصحكم بقراءة هذا المقال: “باراك أخبر الجميع: المطلوب ليس نزع السلاح بل تنفيذ مشروع لبنان الجديد.”)))
4. حول مسؤولية الحكومة اللبنانية ودور أمريكا:
قال باراك: “يجب على الحكومة أن تتحمل المسؤولية. هذه ليست وظيفتنا. ما يريدونه، يريدون الرئيس ترامب أن يكون دوايت أيزنهاور، وينزل هؤلاء المارينز الجميلين ويحل كل شيء لهم. وهذا لن يحدث. لن يحدث في أي مكان. هذه ليست وظيفتنا. نحن لا نفعل ذلك. سنوجه. سنقدم نصيحتنا. سنساعد. لكن عليهم أن يحلوها. لذا على الحكومة اللبنانية، إذا أرادوا العودة إلى المسار الصحيح، أن تقول: ’سننزع سلاح حزب الله‘.”
((((ما قاله باراك أمر يعرفه كل الذين يتابعون السياسة الدولية، وهو أن أمريكا لم يعد لديها مكان في الشرق الأوسط كقوة سياسية وعسكرية ضاغطة.
يمكنكم أيضًا مراجعة مقالي الذي نُشر عام 2017 في كبريات الصحف والمواقع تحت عنوان: “سر بناء القاعدة الأمريكية في إسرائيل.”
هذا المقال، بحال تمت مراجعته، ستفهمون بدقة حدود أمريكا السياسية والعسكرية، وأسرار انسحابها من أفغانستان، ولماذا قُصفت قطر رغم الاعتراض الأمريكي.)))
5. حول عدم ثقته بالحكومة اللبنانية:
قال باراك: “إنه لا يثق بكلام الحكومة اللبنانية، وأنهم يكتفون بالكلام دون فعل. ويقول إن الولايات المتحدة لن تتدخل بقواتها على الأرض، مشيرًا إلى أن إسرائيل هي من ستتولى أمر حزب الله إذا لم يساعد اللبنانيون أنفسهم.”
وهذا الأمر يثبت أن السياسيين اللبنانيين، ومن بينهم الرئيس بري، قد نجوا جميعًا بتفويت الفرصة على أمريكا. ولن يكون هناك اقتتال داخلي إرضاءً لسياسة أمريكا ولا حتى إسرائيل.
أما تدخل إسرائيل مباشرة لحل هذا الأمر، فسيكون مكلفًا كثيرًا؛ فلبنان ليس غزة. لذلك سيبقى “الستاتيكو” العسكري في الجنوب قائمًا. وحقيقة، ستبقى هناك اعتداءات، لكن هذه الاعتداءات ستظل لوقت طويل تحت سقف ما يجري الآن.
الخلاصة:
حتماً سيكون هناك، ربما بعد أشهر طويلة أو ربما سنوات، حرب كتلك التي جرت في غزة، لكن هذه الحرب ليست مرتبطة بلبنان فقط، بل بالمنطقة العربية بأكملها، لأن إسرائيل تريد السيطرة. ومن هنا، علينا أن نستعد لهذه المعركة الكبرى. لذلك، أطالب بتفعيل النخب وإنتاج لوبيات فاعلة تساهم في العمل السياسي وإفشال المخططات الكبرى. أما أن يبقى الحال كما هو، متروكًا لكل من هب ودب، فحتماً ستكون الكارثة وجودية وكبيرة ولن تبقي شيئًا.
استفيدوا من الوقت، وليكن التفكير بهدوء وفعالية بعيدًا عن الضجيج والصراخ والبهورات. كما أن الحل العسكري مع إسرائيل لم يعد يجدي نفعًا؛ مع انه قد يعرقل الاجتياحات أو حتى يكون مكلفًا على إسرائيل، لكن في ظل التطور العسكري الذي حصل، تبقى السياسة هي السلاح الأكثر فعالية. ولإنتاج سياسة فاعلة، نحن بحاجة إلى تفعيل النخب من كافة الطوائف.
أخيرًا، البعض يُهوّل ويُنظّر ويبني فرضيته على الاجتماع الذي سيحصل ويجمع الرئيس “الشرع” ونتنياهو والرئيس ترامب. في الحقيقة، هذه الحروب لا تقاس او تتوقف عند اللقاء من عدمه، فسياسات الدول لا ترتبط بإعلان أو عقد لقاء، بل يمكن إشعال الحرب من عدمها عبر الهاتف. عليكم فقط قراءة السياسة الأمريكية والعالمية بعمق، وسيكون المشهد واضحًا.
المقال يعبر عن رأي الكاتب وليس رأي الموقع، شكرا على المتابعة.