
كتب الجنرال منير شحادة
في أعقاب الحرب الأخيرة في غزّة، والتي شهدت تصعيدًا غير مسبوق في العنف والتوتّر بين “إسرائيل” وحركة حماس، بدأ العديد من المحللين والمراقبين يتساءلون: هل أصبحت “إسرائيل الكبرى” حقيقة واقعة؟ هل التوترات التي نشأت إثر الحرب قد أسهمت في تحقيق هذا المشروع الصهيوني الذي طالما كان محط جدل وقلق في المنطقة؟.
في هذا المقال، سأحاول الإجابة عن هذا السؤال من خلال تحليل تطوّرات ما بعد الحرب، وكذلك تأثيراتها على الصراع الفلسطيني “الإسرائيلي” وموازين القوى في المنطقة.
١ – فهم “إسرائيل الكبرى” في السياق التاريخي
قبل الغوص في السؤال، لا بد من فهم ما المقصود بـ “إسرائيل الكبرى”.
كان هذا المشروع الصهيوني يهدف إلى إقامة “دولة إسرائيلية” تمتد من نهر الفرات إلى نهر النيل، أي من العراق إلى مصر، وهو حلم يتجاوز حدود فلسطين التاريخية ليشمل أجزاء من الأراضي العربية المجاورة.
هناك من يعتقد أن التوسع “الإسرائيلي” المستمر على الأراضي الفلسطينية منذ عام 1948، وتحديدًا بعد حرب 1967، يمكن أن يُنظر إليه كخطوات نحو تحقيق “إسرائيل الكبرى”.
٢ – حرب غزّة: خلفياتها وتداعياتها
حرب غزّة الأخيرة (2023) والتي بدأت في أكتوبر 2023، جاءت بعد فترة طويلة من التصعيد المستمر بين “إسرائيل” وحركة حماس، لكن الوضع تدهور إلى حد أن الحرب تسببت في مجزرة إنسانية كبيرة في غزّة. لكن النقطة الأهم التي يجب التركيز عليها هي أن هذه الحرب سلطت الضوء على الإستراتيجية “الإسرائيلية” في التعامل مع غزّة، وكذلك على دور المستوطنات “الإسرائيلية” في الضفّة الغربية والقدس الشرقية.
أ. العملية العسكرية والتوسع العسكري:
“إسرائيل” بعد حرب غزّة قامت بتكثيف عملياتها العسكرية، سواء في قطاع غزّة أو في الضفّة الغربية. القصف الجوي، الهجمات البرية، والعمليات الأمنية داخل غزّة كانت تحمل رسالة واضحة بأن “إسرائيل” تعتبر نفسها قوة لا يمكن الوقوف أمامها في المنطقة.
ب. التصعيد في الضفّة الغربية:
بعد الحرب، اتسع نطاق الهجمات العسكرية “الإسرائيلية” ضدّ المستوطنات الفلسطينية في الضفّة الغربية، وقد أُعلنت خطوات إضافية لضم أجزاء من هذه الأراضي إلى “إسرائيل” بشكل رسمي، وخاصة في مناطق القدس الشرقية. مع تزايد المستوطنات وارتفاع وتيرة العمليات العسكرية ضدّ الفلسطينيين، أصبح من الصعب تصور سيناريو يُبقي على دولة فلسطينية ذات سيادة في الضفّة الغربية.
٣ – هل أصبح التوسع “الإسرائيلي” حقيقة لا مفر منها؟
من خلال تحليل الوضع الراهن بعد الحرب، هناك عدة مؤشرات يمكن من خلالها أن نفهم ما إذا كانت “إسرائيل الكبرى” قد أصبحت واقعًا أو مجرد حلم بعيد المنال.
أ. الضم التدريجي للأراضي الفلسطينية:
بعد حرب غزّة، كانت هناك تحركات واضحة من الحكومة “”الإسرائيلية”” نحو ضم مزيد من الأراضي الفلسطينية إلى الكيان “الإسرائيلي”.
منذ السنوات الأولى للاحتلال، كانت “إسرائيل” تواصل بناء المستوطنات في الأراضي المحتلة في الضفّة الغربية والقدس الشرقية، وهو ما يُعتبر توسيعًا فعليًا لحدودها.
ومع تزايد الضغوط من المستوطنين الذين يطالبون بضم الأراضي بشكل رسمي، أصبح من الواضح أن “إسرائيل” أصبحت قادرة على فرض سيطرتها على أراضٍ أكثر.
في الوقت ذاته، أظهرت الحكومة اليمينية في “إسرائيل”، بقيادة بنيامين نتنياهو وأحزاب يمينية أخرى، تأييدها لاستمرار عملية الضم، وهو ما يعزز فكرة “إسرائيل الكبرى”.
ب. السيطرة الأمنية والتوسع العسكري:
“إسرائيل” في السنوات الأخيرة، خاصة بعد حرب غزّة، تكثف من وجودها الأمني والعسكري في المناطق المحتلة، وتوسيع نطاق العمليات العسكرية في غزّة والضفّة.
هذه السيطرة لم تقتصر على الجانب العسكري فقط، بل تعدتها إلى السيطرة على البنية التحتية للمناطق الفلسطينية، حيث فرضت “إسرائيل” سياسة حصار شديدة على قطاع غزّة، وواصلت توسيع جدار الفصل العنصري في الضفّة الغربية.
ج. توسيع العلاقات الدبلوماسية مع الدول العربية:
أحد الآثار الجانبية الهامة للتوسع “الإسرائيلي” كان تعزيز العلاقات الدبلوماسية مع بعض الدول العربية عبر “اتفاقيات أبراهام” (2020)، حيث قامت الإمارات والبحرين والسودان والمغرب بتطبيع العلاقات مع “إسرائيل”.
هذا الانفتاح الدبلوماسي عزز من موقف “إسرائيل” في المنطقة، وأعطاها دعمًا إستراتيجيًا يمكن أن يسهل عملية تحقيق “إسرائيل الكبرى” بشكل غير مباشر، من خلال استثمار العلاقات الجديدة لتعزيز مشاريع الاستيطان والضم.
٤ – المعارضة الفلسطينية:
رغم القوّة العسكرية “الإسرائيلية”، فإن المقاومة الفلسطينية لم تتوقف. فعلى الرغم من القمع المتزايد والتوسع “الإسرائيلي” في الأراضي المحتلة، فإن حركة حماس والفصائل الفلسطينية الأخرى لا تزال تُقاوم الاحتلال بشتى الطرق. ومع حرب غزّة، برزت التظاهرات والمقاومة الشعبية في الضفّة الغربية، وكذلك التصعيد العسكري في غزّة. المقاومة الفلسطينية في غزّة أظهرت أن الاحتلال “الإسرائيلي” لا يزال يواجه تحديات كبيرة وتكبد ولا يزال يتكبد خسائر فادحة في محاولة لفرض هيمنته على كامل الأراضي الفلسطينية.
٥ – الدور الدولي:
على الرغم من أن الولايات المتحدة الأميركية تواصل دعمها الثابت لـ”إسرائيل”، فإن هناك ضغوطًا دولية متزايدة للمطالبة بـ”حل الدولتين”، وخاصة من قبل الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة. هذه الضغوط قد تؤدي إلى عواقب دبلوماسية على “إسرائيل”، خاصة إذا استمرت في تبني سياسة التوسع والمجازر على حساب الأراضي الفلسطينية.
مع ذلك، الضغط الدولي لم يثنِ “إسرائيل” عن خططها في تعزيز المستوطنات والضم التدريجي للأراضي الفلسطينية. في الواقع، التوسع المستمر في الضفّة الغربية وجنوب لبنان ومرتفعات الجولان يعكس حقيقة أن “إسرائيل” قد أصبحت أكثر قوة وثقة في فرض سيطرتها.
6 – هل “إسرائيل الكبرى” أصبحت واقعًا؟
نعم، إذا نظرنا إلى الوضع الراهن، يمكن القول إن “إسرائيل الكبرى” أصبحت أقرب إلى الواقع من أي وقت مضى.
التوسع العسكري المستمر، والسيطرة على الأراضي الفلسطينية، وضم القدس الشرقية، وزيادة الاستيطان في الضفّة الغربية، واحتلال كامل جنوب سورية بما فيه مرتفعات جبل الشيخ لتصل إلى أبواب دمشق بعد سقوط بشار الأسد واحتلال عدة نقاط في جنوب لبنان كلها مؤشرات تدل على أن “إسرائيل” تسير في اتّجاه تحويل هذه الفكرة إلى واقع.
كما أن “إسرائيل” بشنها حربًا على إيران دامت ١٢ يومًا بضوءٍ أخضر أميركيٍ ومن بعدها قامت بالعدوان على قطر بهدف اغتيال الوفد الفلسطيني المفاوض أعطت رسالة واضحة أن “إسرائيل” أصبحت متفلتة من كلّ الضوابط وتخطت كلّ الخطوط الحمراء وكلّ المحظورات، ليأتي حديث السيد توم براك بأنها لم تعد تعترف بـ”سايكس بيكو”، كلّ هذا جعل أطماع وحلم “إسرائيل الكبرى” أكثر واقعية و”إسرائيل” أكثر جرأة لا بل غطرسةً لتحقيق هذا الحلم.
لكن من المهم التأكيد على أن هذا الواقع لا يأتي من دون تكلفة باهظة. إن مقاومة الفلسطينيين، سواء عبر المقاومة المسلحة أو التظاهرات الشعبية، ما زالت تشكّل تحديًا قويًا لهذا المشروع. بالإضافة إلى ذلك، فإن الضغوط الدولية قد تعرقل تحقيق هذا المشروع بالكامل، خاصة مع وجود فئات دولية تتبنّى مواقف ضدّ التوسع “الإسرائيلي”.
٧ – الختام:
في النهاية، يمكن القول إن “إسرائيل الكبرى” أصبحت أكثر من مجرد فكرة أو طموح؛ هي تسير باتّجاه أن تصبح واقعًا بفضل السياسات “الإسرائيلية” الحالية التي تسعى إلى تقسيم سورية.
ولكن في الوقت نفسه، تبقى هناك العديد من العوائق والضغوط التي قد تعيق تحقق هذا المشروع بشكل كامل، خاصة في ظل المقاومة الفلسطينية الباسلة في غزّة والضغوط الدولية.
ستكون السنين القادمة حاسمة في تحديد ما إذا كانت “إسرائيل” ستتمكّن من تحقيق هذا الهدف أم ستواجه تحديات كبرى تمنعها من تحقيقه بشكل كامل وخاصة بعد ظهور ضعف الدول العربية والإسلامية بعد القمة الأخيرة التي أظهرت أن لا قرارات رادعة بوجه “إسرائيل” يمكن أن تصدر عن القمة.
منير شحادة عميد متقاعد في الجيش اللبناني/ منسق الحكومة اللبنانية السابق لدى قوات الطوارئ الدولية ورئيس المحكمة العسكرية السابق