اخبار ومتفرقات

كي لا تكون نهاية الشيعة كما كانت نهاية غزة وحماس

كان هناك — أمست سيرته جزءًا من التاريخ والخيال معًا — قائدٌ بحجم المشهد الإقليمي: السيد نصرالله. لم يكن اسمه عنوانًا فحسب؛ بل كان مرآةً لأحلامٍ ومخاوف. لقد كان قوة المقاومة في وعي خصومها، وحضورٌه يحفظ توازن سوريا التي وصل الاسرائيلي الى حدود عاصمتها، ويمنح إيران هذا العمق العربي، ويبقي فلسطين هي القضية، ويحفظ ما تبقّى من توازنات لأقلياتٍ كثيرة. ومع اغتياله تغيّرت الخارطة واغتيلت القضية الفلسطينية، كما اختلت موازين وقضايا، وانهارت مواقف، وتبدّلت المسارات.

حين نقرأ رواية الاغتيال ب 83 طن من القنابل الشيديدة الانفجار والدمار، على مساحة لا تتجاوز ال 500 متر يمكن القول انها توازي في أثرها قنبلة نووية، وكان اسرائيل ارادت ان تقول او تبعث رسالة بهذا الحجم والدلالة الكبيرة، مفادها أن ثمنَ التأثير من اغتيال نصرالله بلغ حداً يتجاوز العاديّات. الرسالة هنا ليست تقنية فحسب؛ إنها تحذير من فراغٍ استراتيجي وخللٍ في إدارةٍ سياسية واجتماعية.

المأساة ليست في اغتيالٍ فردي بقدر ما هي في من نبّهت لهم تلك الخسارة من استفادوا. حين يبرز وجوهٌ تسلّقت مناصبها بالتملّق والارتباطات، وأزيح بدورهم مفكّرون ونخبٌ حقيقية، يصبح الثمن باهظًا على طيفٍ كامل. السياسة، مثل عالم الصناعة والتكنولوجيا، لا ترحم من يتوقف عن التعلم والتجديد. من لا يطوّر أدواته يخسر الموعد مع البقاء قبل أن يخسر المكسب.

المرآة هنا تقربنا من قصة شركةٍ عظمتها الأمس—نوكيا مثلاً—لم ترتكب خطأً نموذجيًا بل أخطأت في قراءة سرعة التحوّل. الفرص العظيمة التي كانت متاحة لم تُستثمر، فلم يكفِ أن تظل منظمة محترمة إذا غاب عنها التحديث والتعلّم. وهنا بالضبط ما أصاب الطائفة: فرص كانت قريبة من التحقق فذهبت بلا رجعة لأن منظومة القرار لم تسرع نحو التغيير.

من بين حلقات هذا الفشل إعلامٌ استُثمر دون رؤية استراتيجية حقيقية. مؤسسات أنفقت عليها الأموال طُويت عن أسواقٍ دعائية وعلاقاتٍ ممكنة مع دول أو جهات مانحة، فغابت عنها آليات الاستدامة والتحوّل. أما التركيز على إشغال القاعدة السردية بتكرار ألقابٍ ومقاييس مشاهدةٍ مفخرة، فقد حجب عننا السؤال الأهم: ماذا قدّم الإعلام فعليًا في بناء مناعة فكرية وسياسية او صناعة راي عام؟

لكن ثمن الأخطاء في السياسة يختلف عن ثمن الأخطاء الإعلامية؛ فالأولى تجرّ المجتمع كله إلى دفع فاتورةٍ طويلةٍ المدى. حين تتحول الأسطورة إلى عادة لغوية يصبح الإغراء بالنرجسية السياسيّة فخًا: تنتهي المبالغة إلى حالة إنكار تُخدر القدرة على النقد والمراجعة، ويبدأ الخطاب المقاوم بالتكلّس والانفصال عن الواقع الذي يفترض أن يمثّله. إن صدق الشعب دعايته فقد بدأ بالفعل رحلة الانحدار والانهيار.

البديل واضح: إعادة ترتيب آليات التفكير والعمل. لا يكفي أن نعترف بالمشكلة بل يجب أن نفرض إصلاحات عملية: إقصاء غير الفاعلين، تفعيل مؤسسات البحث والدراسة لتنتج سياسات قابلة للتطبيق، تحريك قطاع المال والاقتصاد لدعم مشاريع إنتاجية تعيد بناء بنى تحتية للوجود السياسي، وتحويل الإعلام من منبرٍ إشادة إلى آلة تأثيرٍ محترفة ومدروسة.

أين هم رجال المال والاقتصاد؟ أين مراكز الأبحاث التي سخرت لها الملايين لتتباهى بها الواجهات؟ إن لم تُحوّل هذه الموارد إلى مشاريع وخطط واقعية فسيتحوّل كل رأس مالٍ إلى نقمةٍ عند أول اهتزاز. وأين رجال الدين الذين يُنتظر منهم دورٌ إجتماعي بناء الا يخشون ان يعود بهم الزمن الى منصف الخمسينيات من القرن الماضي حيث يصبح رجل الدين ينتظر عزاء ليصرف على عائلته؟ وأين النواب والوزراء الحاليين والسابقين الذين عليهم أن يختاروا بين منصبٍ فارغ أو انسحابٍ منظم يحفظ للطمأنينة والمصلحة العامة كرامتهم، بحال انهارت الطائفة الشيعية لن يبقى شيء، انتم لا تستوعبون ماذا يجري حولكم.

نحن أمام مهلةٍ حتمية ليست مزاجية: إن لم نَسْتَفد من الوقت الممنوح حتى منتصف 2026 لإجراء مراجعاتٍ جذرية، فالمخاطر وجودية. ليس المقصود هنا إنقاذ اسمٍ أو شخصٍ بقدر ما هو إنقاذ مساحةٍ اجتماعية وثقافية وسياسية مهدّدة بالاحتضار إذا لم تُعالج جذورها.

الخطر لا يكتفي بأن يكون خارجيًا؛ فهو يتعاظم حين يكون ثمنُه داخليًا: تخديرٌ ثقافي، وضع الطائفة لا يحتمل تسيّدُ ولاءاتٍ شخصية على حساب وجود الطائفة.

يجب ان يكون هناك تقييم دقيق لمن قادر ان يعمل ومن هو موجود لانه فقط يتملق ويزحف او لصلة قرابة.

 الحل يبدأ من داخل القيادات التي عليها ان تبدا بتفعيل القادرين على العمل والعطاء، بالمؤسسات، والاقتصاد، والتعليم، والإعلام.

الا يقال ان الحرب على الطائفة الشيعية عالمية، اذا المطلوب اليوم هو الذي يفهم قواعد اللعبة العالمية، والعقل الذي لا يغلق أبواب النقد لأن النقد أساسُ الإصلاح.

في الختام: إذا أردنا أن لا تكون نهاية الشيعة نسخةً من نهاية غزة وحماس.

فغزة اليوم تكاد تُمحى من الجغرافيا بعد أن دُمّرت بالكامل وسقط فيها أكثر من ثلاثمائة ألف بين شهيد وجريح، فيما يعاني من تبقّى من أمراضٍ نفسية وأوبئة سببها استخدام الأسلحة المحرّمة دوليًا.

وفي النهاية، عندما نُشرت وثيقة المفاوضات الخاصة بحماس، تبيّن أن الحركة إعلانت هزيمتها ولم تطلب سوى وقف اطلاق النار وضمانات بألا تُستهدف قياداتها في الخارج — وهو طلب طبيعيًا رغم مرارته. لكن السياسة حين تخطئ الحسابات لا تترك مجالًا للعودة، لأن ثمن الخطأ فيها يُدفع من الوجود نفسه.

لن ينجو أحد من قادة حماس مهما كانت الوعود، ولن تبقى غزة كما كانت، إذ يبدو الترحيل جزءًا من مشروعٍ بات ضروريًا في حسابات إسرائيل التي لا تسعى فقط إلى إخضاع المقاومة، بل إلى تأمين مستقبل مشروعها الاقتصادي الأكبر: قناة بن غوريون، التي يُراد لها أن تكون البديل الاستراتيجي عن قناة السويس.

وشقّ قناة بن غوريون إلى جانب سدّ النهضة يشكّلان سلاحين استراتيجيين لتقويض مصر: الأول لتجفيف مياهها، والثاني لتجفيف اقتصادها بحرمانها من عائدات مرور السفن.

إنها مشاريع تُرسم بعقلٍ يخطط لمئة عامٍ قادمة، فيما نحن ما زلنا نحاسب اللحظة بلحظة، ونغرق في تكرار الأخطاء ذاتها التي تُكلّف الشعوب وجودها.

على الطائفة والنخب أن تستيقظ ، أن تُعيد ترتيب أوراقها دون تردد، وأن تضع الكفاءة فوق الولاء. ليس هناك إنقاذ بلا عمل، ولا عمل بلا مراجعة، ولا مراجعة بلا جرأةٍ على التغيير. الزمن لا يلتمس الأعذار — إنه يطالب بالنتائج.

المقال يعبر عن رأي الكاتب وليس رأي الموقع، شكرا على المتابعة. 

 

زر الذهاب إلى الأعلى