
واصلت السلطة اللبنانيّة خطاياها المتسلسلة ضد منطق الدولة الرصين، على الرغم من ادعائها تغليب “منطق الدولة” مكتفية بسمفونيّة الحصريّة الممجوجة دون القيام بأبسط وظائفها ومسؤوليّاتها وفق أولويّاتها من المنظار اللبنانيّ أي بما يترقّبه اللبنانيّون من الحماية والرعاية وحفظ وحدة الاجتماع السياسي اللبناني وقيادته نحو الأفضل.
استعاضت هذه السلطة عن القيام بوظائفها ومسؤوليّاتها وأولويّاتها اللبنانيّة الوطنيّة بمزيد من خيارات الانحدار والهشاشة، وهي تفرج عن “رياض سلامة” بكفالة ماليّة دون رؤية واضحة ومنصفة لمعالجة قضية المودعين والودائع والمصارف، وهي تطلق سراح العملاء دون وجه قانونيّ معتد به، وبذلك تكون السلطة قد نجحت في استتباب الفساد وتسيّب الأمن والسيادة لصالح العدو الإسرائيلي كمكافأة لعدوانه واغتيالاته ومجازره المستمرة، وتيسيرًا لاحتجازه الأسرى واحتلاله الأرض واستدراج مستويات جديدة من عدوانه.
تمايز في الأسلوب والمهمّة واحدة
وإن اتحدت هذه السلطة في إطار الانخداع والخضوع لمنطق الهيمنة العالميّة وفعلها، فإنها عمدت إلى توزيع أدوار لا يخلو من تباين حينًا وتنافس حينًا آخر، مع تفاوت في أساليب التفكير والخطاب والتفاوض واتخاذ القرار وأنماط السلوك.
يبرز ذلك من خلال المقارنة بين رئاسة الحكومة ذات المنطق “الفج”، وبين رئاسة الجمهورية ذات المنطق الواضح رغم تعمّد تظهيره بالتباس مفتعل يعود إلى حداثة “العهد الجديد” وإلى هاجس في تأمين استمراره بنجاح مع حرص على إحراز الرضا الأميركي والخليجي، وكنتيجة طبيعيّة لرداءة أدوار بعض المستشارين وللدفع باتجاه أوهام الحسابات الخاطئة والرهانات الفاشلة والعلاقات السامّة.
مقابل هذه الخلفية والاستراتيجية التي تحكم ديناميّات عمل السلطة الراهنة، يمتاز المواطن اللبناني الشريف والبصير وحامل راية المقاومة بأنّه لا يغرق بشبر ماء الخطاب، ولا برعونته، بل بلمح البصر يستطيع تفكيكه والكشف عن هشاشته وسطحيته وفساده، يعينه على ذلك تحلّيه بمقولة “أن نَخْب الدم الأسمى ليس ممرًّا آمنًا إلى السلطة إنما سيرورة مضنية، وصيرورة إهلاك جامحة لا تثمر ولا تثمن ولا تسمن من جوع”.
وفي العودة إلى ارتكابات تلك السلطة بجناحيها المتكاملين بتمايز السيرة والموقع والصلاحيّات والمصلحة ونمط العلاقات والتواصل والتأثير، يرى المتأمّل بأنها لم تعثر بعد على فداحة الجريمة التي قامت بها؛ ولا عجب، لكونها تعلم أن هذه المهمّة القذرة معدّة مسبقًا كجزء متمّم في ديناميات اشتغالها لميكانيزم 1701.
عصابة الأمر الواقع أم عصبة الكرامة الوطنيّة؟
بخلاصة، إنها معركة الاستباحة لكل شيء، المفتوحة على كل شيء، من أجل لا شيء إلا إرضاء السيّد الأميركي وأذرعه وبالتالي الاستجابة الكاملة لمندرجات الأوامر الإسرائيليّة “بفورية حاسمة دون نقاش أو حوار أو تعديل”، تحت ساتر “منطق الدولة”، ولا دولة إنما عصابات على صنفين:
– الأول: عبارة عن زعامات ميليشياويّة تبدو من مخلّفات الحرب الأهليّة، ومن الدفع نحو اتفاقيّة مشابهة للسابع من أيار عام 1983، أو قرار مطوّر عن الخامس من أيار عام 2008.
– الثاني: عبارة عن متسنّمي المناصب الرسميّة المحليّة إثر الحملة العسكريّة الغربيّة الأميركيّة بيدٍ إسرائيليّة على لبنان، والتي جاءت رياحها بانتقاء بزّة عسكريّة منضبطة محليًّا بسياسات الهيمنة الدوليّة وبمطرقة القانون الدوليّ.
وعليه، حلّت ثلاثيّة الميليشيا والمطرقة والهيمنة كتعبير رمزيّ عن “عصابة الأمر الواقع” مكان ثلاثيّة “الجيش والشعب والمقاومة” في تعبيرها الرمزيّ عن “عصبة الكرامة الوطنيّة”، وهذا يعني أن ثمّة انحدار نوعيّ وانحراف جذريّ وانقلاب بنيويّ عن منطق الدولة الأصيل والرصين.
هكذا يبدو مفهوم “الدولة” بعناصره الأرض والشعب والسلطة هو الغائب الأكبر عن وعي هذه السلطة المتسلّقة إلى التحكّم دون الحكم، والارتجال دون الحكمة.
ها هي تعرّض نفسها وبنيتها وعلاقاتها للاهتزاز وتعميق الانقسام العاموديّ، وإحداث الشرخ الجماهيري، فتحصد أعلى ما تبلغه “الخيانة العظمى” للأوطان في العالم، وتحديدًا عندما ارتكبت إصدار قرارها في جلستي 5 و7 آب المنصرم، في انقضاض سافر على العيش المشترك وميثاقيّته.
لقد أشعلت هذه السلطة بكافة المشاركين في تلك الجلسة، شرارة كافية لاندلاع حرب أهليّة مكتملة الصفات والعناصر، مرتكزة على منطق الإلغاء والتهميش لطائفة كبرى بأكملها.
لقد سلّت السيف على مَن حفظ للجيش وفاءه وشرفه وكان بديله وفداءه عن تضحياته المفترضة، بل رمت على الجيش الوطني جمر غبائها، والأخطر أنها بهذه القرارات والممارسات تكون قد وضعت نفسها على إحداثية إسهام “العهد الجديد” بتشييد “شرق أوسط جديد بنفوذ إسرائيليّ”، فتمكّنه بسط سلطته على الدولة اللبنانية كاملة، على طريق الاستجابة لتحقيق ازدهاره بالقوّة عبر نطاق أوسع يضم عددًا من الدول العربية والإسلاميّة وتساهم في تسهيل دخوله إلى نادي التنافس الدولي بدائرته الكبرى، متذرّعةً بموازين القوى الجديدة، والتهويل من مدخل حرص بعض أركانها على منع حصول “غزّة ثانية” في لبنان.
مواجهة سيناريوهات الضغط
بهذا المعنى تُشرّع هذه السلطةُ لبنانَ على سيناريوهات ثلاثة مفتوحة وفق توقيت ومخطّطات المشروع الأميركي_الإسرائيليّ في غرب آسيا، أولاها باستدعاء التصعيد النوعي باستئناف وتيرة الحملة العدوانية التي سبقت 27 تشرين الثاني 2024، ثانيها باندلاع الاقتتال الداخلي، وثالثها بتحفيز الجبهة الشرقيّة الشماليّة على التحرّك مع امتداداتها الفتنويّة في الداخل اللبناني.
في المقابل، تعمد المقاومة إلى تقليص ودرء المواجهة الداخلية ما استطاعت مقابل المنحى الخطير لجدول أعمال السلطة وبعض القوى اللبنانيّة، وإلى فتح نافذة أمل وبصيص نور في إقامة حجّة أو سد ذرائع أو اغتنام مناسبة لفعل أي شيء داخليًّا وخارجيًّا يؤمن لها وللوطن الاستقرار والتعافي والوحدة والمضي في برنامج الدفاع عن لبنان الوطن وعن أمنه في الأمة.
وفي هذا الإطار تهتم المقاومة بعناية واضحة في دراسة المسألة السوريّة باقترابها الواقعي منها، تأخذ في الحسبان بين إبعاد شبح الاقتتال أو التوتّر المحتمل عند الحدود الشرقيّة والشماليّة، وبين الانفتاح المحسوب على تلك السلطة الناشئة مع حفظ كرامة السوريين الداعمين لخيارها.
وفي الصدارة، يبقى العدو الإسرائيلي تحت المجهر المقاوم، تضعه المقاومة على محمل الجد من باب الاستعداد لأسوأ الأسوأ، وهي تقرأ صلف التهديد الأميركيّ سواء الصادر عن “توماس برّاك”، أو ما يُنقَل عن مبعوث الرئيس الأميركي “ستيف ويتكوف” بأن إسرائيل ستشن حربًا على لبنان خلال مدة يقتضيها الاقتراب من نهاية “حرب غزة” بموازاة انتهاء المهلة الملزِمة أميركيًّا للجيش اللبناني لنزع القوّة من لبنان.
عمومًا، تتصرّف المقاومة في لبنان بحكمة وشجاعة وصبر استراتيجيّ وغموض بنّاء حول اقتدارها، إزاء نتائج معركة أولي البأس وما تلاها من تغيّر جيوسياسي، وإزاء ما يستجد من تفاعلات أخرى ذات ديناميّات ناشطة ومؤثّرة، وتبقى المواجهة مقابل العدو قاعدتها المركزيّة بينما رسمت خطوطها الحمراء للداخل والخارج، وما ابتعاث رسائلها المتسلسلة للسلطة في لبنان منذ إطلاق صافرتها، وكذلك للمملكة العربيّة السعوديّة إثر العدوان الإسرائيليّ على دولة قطر، إلا تعبير عن قوّة الموقف وموقف القوّة، عساها تعود السلطة اللبنانية إلى “عصبة الكرامة الوطنيّة” وثلاثيّتها التكامليّة “جيش، شعب، مقاومة”، تمهيدًا لبناء “الدولة العادلة القادرة”.
المقال يعبر عن رأي الكاتب وليس رأي الموقع، شكرا على المتابعة.