
رجلٌ تجسّد ضميرًا لوطن ينبض نزاهةً وجدارةً وعصاميّةً نادرة، حتى قال عنه سيّد شهداء الأمّة “السيد حسن نصر الله”، في مستهل كلمته في 25 آب 2024: “كان عنوانًا كبيرًا ورمزا وطنيًّا للنزاهة والمقاومة، وكان سندًا للمقاومة ومؤيِّدًا لها حتى اللحظات الأخيرة من عمره”.
رجلٌ متجذّر في شهامته وتجربته العريقة ورصانته الأنيقة، بمثابة خريطة لا تزيح عن الأمّة وقضاياها، ولا تفارق مفاهيم الوطن والوطنيّة بأبهاها.
باختصار وجزم، “سليم أحمد الحص” (1929- 2024 م) قامة إنسان بحجم لبنان، وليس شارعًا لـــ”حصريّة السلاح”، وليس سلعة للنيل من القيم والرسالات ومجمل القضايا بحجم فلسطين والمقاومة والأمّة. وهو ليس مادة تسويق لمندوب مطرقة الهيمنة الدوليّة في لبنان، أو مسحوقًا تجميليًّا لعنجهيّة ما برحت تضرب شرخًا في الاجتماع السياسيّ اللبنانيّ باسم السلطة، لتكون أداة طيّعة للعدو باستثارة مذهبيّة ومصادرة ناعمة انتخابيّة، لم يعتمدها “الحص”، وطلّقها ثلاثًا.
هنا تحضر مضامينه في طيّات كتبه بقوّة، حين يقول: “إن المسماة شرعيّة لبنانيّة … باتت لا تعبّر عن مواقف جامعة بين اللبنانيّين” (ذكريات وعبر، ص 64)، إذ إن: “موقف الشرعيّة لا يكون مشروعًا إن لم يكن عادلًا” (نقاط على الحروف، ص 228). و:”إن السلطة لا تكون قوية بقوّة عسكرها وإنما بمزاياها، أي بعدلها ونزاهتها وفاعليّتها (نقاط على الحروف، ص 163).
كما يضيف الرئيس الراحل: “علّمتنا التجربة، وإنما بعدما دفعنا الثمن غالبًا، أن تماسك السلطة هو من وحدة الشعب، ولا تكون للجمهور وحدة حقيقيّة إن لم تكن نابعة من اقتناعات مشتركة مبنيّة على الإحساس بالمصلحة الواحدة والالتزام بالمصير الواحد. أما القوّة العسكريّة فلا دور سياسيًّا لها في حال من الأحوال؛ فهي لا تصنع تماسكًا في السلطة ولا تغني عنه. وهي في ظل سلطة متماسكة ليس لها دور تشغله داخليًّا، فالدور الذي تتولّاه يقتصر على الحدود في الدفاع عن تراب الوطن ضد أي عدوان خارجي يمكن أن يتعرّض له، خصوصًا والعدو متربّص على الحدود الجنوبيّة. تعلّمنا من التجربة أن تسخير الجيش لمآرب سياسيّة، في ظل حال من الانقسامات الداخليّة، يجعل القوّة العسكريّة ويلًا على المجتمع ووبالًا على الوطن، وهو أقصر طريق لتفكيك الدولة. ذلك؛ لأن الجيش قطعة من الشعب وحاله مرآة لحاله (نقاط على الحروف، ص 163 و164).
جادة “الحص”: اليقظة مقابل العدو
هذه هي جادة “سليم الحص” الذي بقي قويًّا لم يطلب أمرًا لنفسه، التزم في ذلك حكمة لازمته طوال تمرّسه المسؤوليّة، إذ لم يتحوّل إلى محترف سياسيّ يعمل للوصول إلى الحكم إن كان خارجه، وللبقاء فيه إذا كان داخله، وللعودة إليه إذا خرج أو أخرج منه (زمن الأمل والخيبة، تجارب الحكم ما بين 1976 و1980، ص 7 و9).
جادة “الحص” لطالما كانت صارمة من “عائشة بكّار” إلى حيث وصل صداه: “خسر المراهنون على إسرائيل في رهانهم مرّتين، مرّة عندما اجتاحت إسرائيل بلدهم ومرّة عندما تتكشّف لهم مآربها الحقيقيّة في بلدهم (لبنان على المفترق، ص 101). “وأخشى ما أخشاه أن يكون من ضمن الأهداف الأبعد التي ترمي إليها إسرائيل تفتيت لبنان شعبًا فكيانًا، وذلك مدخلًا إلى تفتيت سائر الدول العربية المجاورة؛ حيث تغدو إسرائيل في مأمن على سلامتها لا بفضل تفوّقها العسكريّ فحسب؛ وإنما بفضل صيرورتها الأكبر بين دويلات متنازعة (لبنان على المفترق، ص 102)… “فأي انتصار يمكن أن يحلم به عدو، مثل الانتصار الذي يتكلّل لا بسيطرة عابرة على عاصمة الخصم، وإنما بالسيطرة الحاسمة على مركز القرار في قمّة نظامه(نقاط على الحروف، ص 227).
هذا هو واقع الحال يا ضمير لبنان!
هي السيطرة الحاسمة على مركز القرار في قِمّة النظام، وكما قلت يومًا: “بتنا، في السياسة، نحسد الغاب على شريعته (لا افتراس إلا في حال الجوع، لا يفترس أحدًا من أبناء جلدته). ليس في الدنيا لعبة إلا ولها قواعد، اللهم إلا اللعبة السياسيّة في لبنان؛ فهي لعبة بلا قواعد، فلا شريعة ولا ضوابط، والضرب على غير هدى، …. والافتراس هو سنّة الحياة السياسيّة (للحقيقة والتاريخ، تجارب الحكم ما بين 1998 و2000، ص 12).
لكن هذه السلطة كما ترى من عليائك، تمارس المكر والغدر والارتهان المطلق للعدو من دون أدنى وقاية من الأفعى “أورتاغوس” والبركيل “برّاك”؛ فيما اللون الرمادي ما يزال في ركام البيوت المدمّرة والاغتيال اليوميّ القاتل.
لقد ختم قائد المقاومة “السيّد نصرالله” كلمته بعد كلمتك في المؤتمر القوميّ العربيّ والمؤتمر القوميّ الإسلاميّ بدورته الطارئة دعمًا للانتفاضة الفلسطينيّة (14/ 10/ 2000) بالقول: “كنت أبحث في هذه الأيّام عن مناسبة في حضور دولة الرئيس الحص، وهو يغادر موقعه الرسميّ، لأقدّم له الشكر باسم كل مجاهد في المقاومة على وطنيّته ومناقبيّته ووقوفه الصادق إلى جانب مقاومة شعبه. وأقول له إننا نفخر به في أي موقع كان. (للحقيقة والتاريخ، تجارب الحكم ما بين 1998 و2000، ص 14).
لقد غادرت يا “دولة الرئيس” الساحة السياسيّة ولك نظرة في الحياة السياسيّة. قلتَ سابقًا: “إن في لبنان كثيرًا من الحريّة، وإنما القليل من الديموقراطيّة” (للحقيقة والتاريخ، تجارب الحكم ما بين 1998 و2000، ص 11)
لكن الحريّات التي كنتَ تظن أنها مصونة بكل أشكالها وتجليّاتها ما عادت لتحتجب، كما في عهود سابقة فحسب، بل أصبحت وسيلة عدوان وتحكّم وافتعال شقاق وفتنة. لكن كما كنت تقول: “المقاومة اللبنانيّة تقوم بالمهمّة خير قيام” (الحقيقة والتاريخ، تجارب الحكم ما بين 1998 و2000، ص 264).. “إلا أنّنا، في كل الأحوال، نتطلّع إلى جلاء إسرائيل عن أرضنا بتوقٍ عظيم. ونرفض تحميلنا مسؤوليّة أمن الحدود” (الحقيقة والتاريخ، تجارب الحكم ما بين 1998 و2000، ص 270).
المقال يعبر عن رأي الكاتب وليس رأي الموقع، شكرا على المتابعة.