السياسيةجبيلجبيل المدينةجبيليات وكسروانيات

بذكرى مجزرة المعيصرة الكسروانية، إلى أهالي جبيل وكسروان، وأحزابها وشخصياتها وكنائسها وأديرتها

مجزرتين المعيصرة الكسروانية 25 أيلول و12 تشرين الأول
مجزرتين المعيصرة الكسروانية 25 أيلول و12 تشرين الأول

بذكرى مجزرة المعيصرة، إلى أهالي جبيل وكسروان، وأحزابها وشخصياتها وكنائسها وأديرتها
بقلم: ناجي علي أمهز

كان الأباتي أنطوان ضو، مثلث الرحمة، يتحدث عن التعايش في جبيل وكسروان، كمن يتلو صلاة لا تعرف نهاية.
كان يرى في الإنسان الفينيقي دينًا قائمًا بذاته، دينًا لا تُكتب وصاياه على الحجر، بل على القلب.
كان يقول: “الإنسان الذي يحبّ، هو وحده الذي يعرف الله، لأن الله لا يُعرف إلا بالمحبّة.”

 

وكان فخورًا بهويته اللبنانية المشرقية الأصيلة، كما يفخر النسر بجناحيه حين يعلو فوق السحاب.
يقول لي دائمًا: “أنا من جبيل… من أرضٍ فيها صدى القداسة، وفيها مار شربل قديس بحجم الكرة الأرضية، ومنها انطلقت الأبجدية، فأنطقت الحجر وعلمت العالم الكلام.”

 

وفي جلسةٍ من تلك الجلسات الطويلة، رأيته يبكي كطفلٍ أمام وجه أمه،
قال لي بصوتٍ يرتجف بالحنين:
“أجمل ما في الوجود أن تصحو على وجهٍ تحبه، أن تفتح بابك فتجد أهلك ينتظرونك حول فنجان قهوة،
أن تتفيأ ظلّ شجرةٍ تعرفك، وأن يملأ نسيم الصباح قلبك بذكرياتٍ تشبه صلاة الأم.
أن تشمّ رائحة الخبز المرقوق على الصاج، وتسمع ضحكة أبيك وهو يحلم لك بمستقبلٍ تضيئه المحبّة.”

 

ثم تابع وهو يمسح دمعته:
“يا بنيّ، الذكريات التي تولد من المحبة، لا تموت.
هي الزيت الأخير في قنديل العمر، تضيء لنا الدرب حين يشتدّ العتم.”

وكان يقول إن المحبة هي جوهر الإنسان،
هي التي جعلته يعزف الموسيقى ليقول ما لا يقال،
ويكتب الشعر ليبوح بما لا يُبوح،
ويكون طبيبًا ليمنع الموت من أن يغلب الحياة.

 

ثم نظر إليّ وقال:
“أنا صرت راهبًا لأن المحبة امتلكتني، أحببت يسوع لأنه علّمني كيف أحب الناس.
وفي بلادنا، بلاد جبيل وكسروان، المغمورة بجمال الطبيعة،
لا مكان للعقارب والأفاعي، لأن هذه الكائنات لا تعيش إلا في الصحراء الجافة،
ومن يفقد المحبة، ولو عاش بين الأنهار والأشجار، يصير قلبه صحراء.”

 

وكان يختم كلماته بابتسامةٍ تشبه النور:
“الناس يوزعون الطحين والسكر،
أما أهل جبيل وكسروان فيوزعون المحبة.”

 

إلى أهلي في جبيل وكسروان،
إلى هذه الأرض التي تجمع بين حجارة الكنائس وصوت الأذان،
إلى هذه النفوس التي لا تزال تحفظ يسوع في القلب، لا في الصور،
إلى كل حزبٍ وكل شخصية، إلى كل صخرةٍ وزهرةٍ وشجرةٍ في بلادنا،

 

تعالوا نتذكّر معًا مجزرة المعيصرة،
لا لنبكي الموت، بل لنوقظ الحياة.
لنقرع الأجراس، ونرفع الأذان، ونوقد الشموع،
لنقول للعالم إن المحبة التي تسكن جبالنا لا تموت،
وإننا رغم الألم باقون على العهد، أبناء نورٍ لا يطفئه الدم.

 

تعالوا نتذكّر الأطفال الذين قُتلوا وهم يحلمون بالغد،
نتذكّر الخائفين الذين صرخوا “يا عدرا دخيلك”،
والذين رفعوا وجوههم نحو السماء وقالوا “يا الله ساعدنا.”

 

فلنجعل من إنسانيتنا مجدًا،
ومن محبّتنا عهدًا،
ولتبقَ جبيل وكسروان،
صورة الله على وجه الأرض.

خلونا نصلي كلنا، بعده الله فينا وببلادنا.

 

زر الذهاب إلى الأعلى