
هناك ثلاثة أمور لم يدركها بعد معظم اللبنانيين، وخصوصًا أبناء الطائفة الشيعية:
أولها، أن لبنان يعيش حربًا حقيقية، ليست فقط مع إسرائيل، بل مع الولايات المتحدة وأوروبا أيضًا.
وثانيها، أن البلاد مهددة بقطيعة سياسية واقتصادية من جانب الدول العربية.
وثالثها، أن هذا كله يحدث فيما الغالبية تتصرف وكأنها خارج المعركة.
مشهد القناصين
لنتخيل لبنان إنسانًا يقف في العراء، تحيط به أكثر من عشرين بندقية قنص مصوبة إلى رأسه، تنتظر فقط أمر إطلاق النار.
هذا الإنسان هو اليوم صورة رمزية للطائفة الشيعية. البنادق موجهة نحوه، لكنه يرفع صوته متحديًا، وكأن الخطر لا يعنيه أو لا يدرك حجمه.
أصحاب قرار إطلاق النار ينظرون إليه بدهشة: كيف لا يخاف؟ كيف لا يبحث عن مخرج؟
فيطلبون من أحد القناصين إطلاق رصاصة تحذيرية بالقرب منه — وهي الاعتداءات التي تقوم بها إسرائيل من حين إلى آخر — هدفها إخافته لا قتله، لتذكيره بالخطر المحدق، ومراقبة كيف سيتصرف، قبل القرار الاخير الذي سيتخذ.
وحين يسمع دوي الرصاص، يصرخ هذا الإنسان: «أين الدولة؟ لماذا لا ترد؟»
ولا يعلم أن الدولة كلها في حالة حرب، ولكن بدرجات مختلفة، وأنها عاجزة حتى عن إيجاد نصف حل للخروج من المأزق الذي أُدخل إليه لبنان.
لقد أصبحت إسرائيل، للأسف، القوة التي تفرض شروطها في المنطقة، وهو انتصار لم يكن أحد يرغبه، حتى حلفاء اسرائيل، لأن بقاءها مهددة كان يمنح دول المنطقة مساحة سياسية أكبر.
بيت يحترق
ما يفعله هذا الإنسان يشبه من يسمع صراخ طفل في بيت مشتعل، فيقتحم النار لينقذه، رغم علمه أنه قد لا يخرج حيًّا.
لكنه يفاجأ بأنه لا يستطيع الوصول إلى الطفل ولا العودة إلى الوراء، فيصرخ من بين ألسنة اللهب: «أين الإطفاء؟ أين الناس؟»
غير أن لا إطفاء موجود، ولا جمهور يمتلك الشجاعة للإنقاذ.
هذا المشهد فهمته الدول المحيطة، مثل مصر التي اختارت الحياد، رغم قوتها وعدد سكانها الكبير، لأنها تدرك حجم الدعم الأمريكي والأوروبي لإسرائيل، وربما لأنها تشك أن الصراخ داخل البيت مجرد تسجيل صوتي.
وهذا الموقف انسحبت عليه معظم الدول العربية وتركيا كذلك.
إنسان يتيم ومحاصر
الإنسان الشيعي اليوم يعيش كيتيم لا أم له ولا أب:
• فالموارنة لديهم «الأم الحنون» فرنسا والفاتيكان،
• والسنة والدروز والمسيحيون الآخرون لهم أبٌ اسمه أمريكا.
أما الشيعي فإخوته بعيدون — في اليمن والعراق وإيران — لا يستطيعون الوصول إليه.
وزاده سوء حظ أن جيرانه، لأسباب تاريخية ودينية، هم أعداؤه. والمثل يقول الجار قبل الدار، وجارك القريب ولا اخاك البعيد.
ولم يسعَ إلى استثمار السياسة لكسب ودّهم رغم أن الحق معه، فنسي المثل القائل:
«قرية تتحمل شخصًا، لكن الشخص مهما اشتدت قوته لا يتحمل قرية بأكملها ضده.»
انغلق على نفسه، ولم ينسج حوله مجتمعات نشطة أو مبادرات فاعلة.
وبذلك وجد نفسه اليوم معزولًا تمامًا، بلا سند ولا ظهير، محاصرًا من الخارج ومن الداخل معًا.
الأبواق الصدئة
ولم يكتفِ بالعزلة، بل سمح لأصواته أن تتحول إلى أبواق صدئة تصدر ضجيجًا بلا نغمة، ما جعل العالم ينظر إليه كطرف مزعج لا يعي ما يفعل.
فالسياسة، مثل الموسيقى، تحتاج إلى تناغم، لا إلى نشاز.
البلبل يُحبس في قفص لسماع تغريده الجميل، أما الغراب فمصيره الرصاصة، لأن منظره وصوته كافيان لإثارة النفور.
وهكذا بات البوق القبيح أخطر على الشيعة من السلاح نفسه.
ما الذي يؤخر إطلاق النار؟
الذي يمنع حتى الآن إطلاق الرصاصة القاتلة على «الإنسان الشيعي»، أن بعض العقلاء في الداخل والعالم يرون فيه عنصر قوة ضروريًا لاستقرار المنطقة.
فهو، رغم ضجيجه، يحمي القرية من الضباع والوحوش.
وغيابه قد يفتح الباب للفوضى والانهيار الكامل للقرية.
لكن الدول الكبرى لا تزال توازن بين خيارين:
هل تتحمل «إزعاجه» أم تزيله مع القرية كلها؟
وهي تقول لنفسها لولا ان الشيعي خلافاته داخل قريته فقط على قطعة ارض او بستان اشجار او حتى ري الارض بالماء او رعي اغنامه لما وقفنا عنده ولا تدخلنا بشانه، لكن هذا الشيعي يمنعنا نحن من اكمال مشاريعنا ويزعجنا بتصرفاته ويوتر اعصابنا من افعاله، وهذه الدول والقوى تنتظر وتراقب، أم يخرج الانسان الشيعي من عزلته ويتصرف كعنصر توازن راقٍ ومسؤول؟ او حينها يطلق النار عليه.
الخلاصة: الوعي قبل فوات الأوان
إن أخطر ما يواجه الشيعي اليوم ليس الرصاصة، بل عدم معرفة ما يجري حوله.
فالحل يبدأ من الداخل، عبر خطوات بسيطة وواضحة:
1. التخلّص من الأبواق الصدئة: إيقاف الأصوات التي تُسيء أكثر مما تُعبّر.
2. تنشيط الحياة السياسية الواعية: كلما زاد الحراك السياسي المسؤول، قلّ صوت القذائف، لانهم سيتعبون ان هناك تحرك او قرار ما سيتخذ.
3. تحسين الصورة العامة: أظهار أفضل ما عندهم في الخطاب والسلوك والاحترام وحتى مرعاة الاتيكيت.
4. إطلاق نخبة فاعلة: دعم جيل من المثقفين والسياسيين القادرين على تمثيل المجتمع والدفاع عنه بوعي وحكمة.
5. إن ما يهدد لبنان والشيعة معه ليس الحرب وحدها، بل التقليل من حجم ما يُحاك، بعبارات انه مش فرقانة معنا، ولا نهاب الموت، وسننتصر ان متنا او بقينا احياء، مستعدين مواجهة الجميع، يعني التحدي بان مليون شهص سيقاتلون ربع الكرة الارضية.
والنجاة لا تكون بالانفعال، بل بالإدراك، وبالتحرك المنظّم، قبل أن يتحول الإنذار إلى استهدافٍ حقيقي لا رجعة بعده.
ارجو ان اكون وفقت بتقريب المشهد.
المقال يعبر عن رأي الكاتب وليس رأي الموقع، شكرا على المتابعة.