
كنت أنتظر كلام سماحة الشيخ نعيم قاسم بفارغ الصبر، وكأن اليوم الذي سيتحدث فيه سيكون اليوم الأخير قبل يوم القيامة.
يوم تُدمر فيه البيوت على ساكنيها، وتغرق الشوارع بالدماء، وتفقد الناس مؤسساتها وأعمالها، وتهجر الطائفة لتعيش تحت المطر وفي برد الصقيع القاتل، من دون أن يكمل أبناؤها عامهم الدراسي.
ذلك لأنّ الأصوات التي ملأت الفضاء في الأيام السابقة كانت تُبشّر بحربٍ وشيكة، وبأن “حزب الله سيهجم” و”سيمسح الأرض بإسرائيل”.
كل تلك الأبواق كانت تدور في فلك الحزب، بعضها قريب من قياداته، وبعضها يتحدث بثقة من يملك المعلومة المؤكدة، والحزب نفسه لم يتخذ موقفًا بحق هؤلاء، مما جعل الناس يظنون أنّ ما يُقال ما هو إلاّ رسائل غير معلنة يوجّهها الحزب على لسانهم.
كنت أترقب إطلالة الشيخ نعيم قاسم، وأنا أُعيد في ذهني سؤالًا واحدًا:
هل سيؤكد ما تقوله الأبواق؟ هل سيعلن عن هجومٍ على إسرائيل؟ هل نحن فعلاً على أبواب الحرب؟
لكن عندما تحدث الشيخ، لم يُفاجئني.
فقد سمعته مرارًا، وسمعت عنه أكثر من سياسيين ومثقفين يصفونه بأنه فقيهٌ في السياسة كما هو فقيهٌ في الدين، وأنه إداريّ يحكم عقله ببرودة الحكمة لا بحرارة الغضب، رجلٌ يجمع بين العقل والإيمان، بين العلم والرحمة، فصار صمام أمانٍ للطائفة في أحلك ظروفها.
كنت أتابع المقابلة بتمعن، ووجدت فيها ثلاث نقاط على الشيعة أن يفهموها قبل أن يصبحوا «في خبر كان» إذا استمروا بهذا الانفعال الإعلامي الخطير.
كما أن هناك مسؤولية كبرى على رجال الدين في التصدي لهذه الأبواق وترشيد العقول، لأنّ سقوط رجل الدين الشيعي سقوط للطائفة كلّها، فمكانتهم في الوجدان الشيعي ليست تفصيلاً.
إنهم حملة إرثٍ روحيٍّ وتاريخيٍّ كبير، ومن واجبهم أن يكونوا على قدر الأمانة الإلهية لا أتباعًا لزهو الأبواق.
الشيخ نعيم قاسم ردّ على كل هذا الجنون الإعلامي بحكمته، ووجه رسالة صريحة إلى جمهور المقاومة:
“الجمهور بده يتقبل أشياء بالأول لا كان عايش ولا يتقبلها، في مرحلة كان إلها ظروفها تقوم تنقل كافة التفاصيل تبعها للمرحلة التانية لا بتختلف نحن صرنا بوضع مبين انه ما في توازن بالقوة بيننا وبين اسرائيل بشكل فاضح جدا.”
ثم ردّ مباشرةً على أبواق محور المقاومة التي تطالبه بلغة الحرب والتهديد فقال:
“عندما قلت نحن نريد إيلام العدو، أحدهم اعترض قائلاً: العدو شو إيلام العدو، يجب أن تقول سأمسح الأخضر واليابس. فقلت له: وبركي ما مسحت الأخضر واليابس بفقد مصداقيتي.”
أما الذين يحاولون دفع الحزب إلى الحرب، فكان جوابه واضحًا لا لبس فيه:
“إن احتمال الحرب الإسرائيلية على لبنان قائم لكنه ليس مؤكداً. الحزب ليس لديه قرار بأن يشن معركة، لكنه سيقاتل إذا ما فُرضت عليه المعركة. نحن ما عنا قرار نعمل معركة، ما عنا قرار نبادر بأنه نروح لقتال، بس إذا فُرضت علينا معركة، لو كان عنا خشبة ما رح نخلي الإسرائيلي يمرق، بدنا نقاتله حتى ولو لم يبق منا أي رجل وأي امرأة.”
كلام الشيخ هنا لا يحتاج إلى تأويل ولا إلى وسيط.
هو يقول ببساطة إنّ الحرب ليست خيارًا بل اضطرارًا، وإنّ العقل هو السلاح الأول قبل البندقية.
ومع ذلك، يبدو أنّ كثيرين لم يفهموا، أو لا يريدون أن يفهموا.
عندما يُصرّح محمد الحسيني مثلاً بأنّ “حزب الله استطاع إعادة ترميم قوته”، تنهال عليه الشتائم من نفس الأشخاص الذين يصفقون بعد دقائق لبوقٍ آخر من المحور يقول العبارة نفسها.
الأول “عميل يحرّض إسرائيل”، والثاني “مناضل يقول الحقيقة”.
والعبارة؟ واحدة.
لكنّ العقول مختلفة في فهمها.
محمد الحسيني يقول إنّ “حزب الله قد يشن حربًا على إسرائيل أو على النقاط الخمس”، فيُتهم بتسريب معلومات، وتُطلق عليه أحكام الخيانة.
بينما يخرج أحد أبواق المحور ليقول: “حزب الله مستعد للهجوم على إسرائيل ويمسح الأرض فيها”، فيتحول إلى بطلٍ شعبيٍّ عند نفس الجمهور، ويُغدقون عليه المديح والولاء.
مع أن القولين واحد، والمعنى واحد، لكنّ المشكلة في السامعين لا في القائلين.
أنا لا أريد أن ألوث نفسي بهذا الهذيان ولا أن أغرق في مستنقع البطولات الوهمية،
بل أريد أن أقول إنّ الطائفة الشيعية تعيش اليوم أزمة فهمٍ حقيقية، أزمة في التمييز بين الكلام المسؤول والكلام الانفعالي، بين الرأي والخيانة، بين الموقف والإشاعة.
هذه الفوضى ليست من فراغ، بل هي نتيجة إعلامٍ غير منضبط، جرّ الناس إلى حالة من العمى الفكري والعاطفي، حتى صار بعضهم يصفق للكلمة فقط لأنها قيلت من داخل «الفريق»، لا لأنها صحيحة أو منطقية.
لقد حذّر الشيخ قاسم بعمق وهدوء، لكن الخطر في أن لا يُسمع تحذيره.
فحين يغيب الفهم، يغيب الوعي، وحين يغيب الوعي، تضيع الطائفة، لا بالرصاص، بل بالكلمة التي تُقال دون عقل، وبالتهليل الذي لا يعرف لمن ولماذا.
المقال يعبر عن رأي الكاتب وليس رأي الموقع، شكرا على المتابعة.