اخبار ومتفرقات

دور الأكراد في بناء الدولة الوطنية السوريةمن التأسيس إلى الثقافة الجامعة

سلسلة دراسات تثقيفية تصدر عن دار الشعب للنشر

منذ بدايات القرن العشرين شكل الأكراد جزءًا من النسيج الاجتماعي الذي تكاتف حول فكرة الاستقلال السوري، وشاركوا بفعالية في بلورة الشخصية الوطنية الجديدة و التي بدأت بمقارعة الاحتلال الفرنسي بثورة البطل ابراهيم هنانو وصولا إلى النضالات السياسية التي كان من أبرز رموزها القائد الأممي خالد بكداش. لم يرَ كثير من المثقفين والسياسيين الأكراد أنفسهم في عزلة عن المشروع القومي السوري، بل ساهموا فيه بوصفهم أبناء الجغرافيا والتاريخ المشترك.صحيحٌ أنَّ الأكراد مرّوا في بعض المراحل بسياساتٍ إقصائيةٍ أو تهميشيةٍ من قبل أنظمة الحكم المتعاقبة، إلا أنّ ذلك لم يُثنِهم عن الاندماج الكامل في مشروع بناء الدولة الوطنية. فالتجربة التاريخية تثبت أن العشرات من كبار القادة والمسؤولين في الدولة السورية كانوا من الأكراد: من رؤساء الجمهورية والوزراء إلى القادة العسكريين، مرورًا برؤساء الأحزاب والشخصيات الدينية والاجتماعية البارزة، وهو ما يدل على عمق حضورهم في تكوين الدولة ومؤسساتها.في مرحلة ما قبل الاستقلال، برزت أسماء كردية في مفاصل الدولة الوليدة: ضباط في الجيش، إداريون في الحكم المحلي، رجال قانون، وأدباء حملوا هوية سورية جامعة. كانت دمشق وحلب والجزيرة فضاءات مفتوحة للأكراد كما للعرب، وظهر جيل من المثقفين الأكراد الذين كتبوا بالعربية وأسهموا في بناء الصحافة والنهضة الأدبية الحديثة على سبيل المثال لا الحصر الأديب الكبير محمد كرد علي والفنان عمر حمدي و تعزز الحضور الكردي كذلك في الفن و الدراما بأسماء ساطعة مثل الفنانة منى واصف و طلحت حمدي و عبد الرحمن آل رشي و المبدع خالد تاجا كما أصبحت العديد من الأسماء حاضرة بقوة في المشهد الثقافي السوري كالكاتب سليم بركات و يبرز حضور اسمين عملاقين في الفكر الإسلامي كنقطة فارقة ليس في سوريا فقط بل في العالم الإسلامي و هما فضيلة المفتي المرحوم الشيخ أحمد كفتارو و فضيلة الشيخ المرحوم د. محمد سعيد رمضان البوطي يمكن القول إنّ الوعي الكردي آنذاك كان وطنيًّا قبل أن يكون قوميًا، إذ نظر كثير من الأكراد إلى سوريا ككيان جامع يتجاوز الانتماءات الضيقة، وكانوا من المساهمين في صياغة خطاب الدولة المدنية الحديثة.اقتصاديًا، لعبت المناطق ذات الغالبية الكردية دورًا مهمًا في الإنتاج الزراعي والنفطي، وأسهمت في مدّ الاقتصاد السوري بمصادر حيوية من القمح والنفط والثروة الحيوانية، وهو ما جعلها جزءًا لا يتجزأ من منظومة الأمن الاقتصادي الوطني.ثقافيًا، أضاف الأكراد بعدًا غنيًا إلى الهوية السورية، من خلال الموسيقى والزي الشعبي والشعر الشفهي والأساطير، مما جعل الثقافة السورية متعدّدة الألوان ومتداخلة الإيقاع. لم تكن الكردية والعربية مجرد لغتين متجاورتين، بل متداخلتين في الأغاني والحكايات والأسواق اليومية.و من خلال بناء الدولة استمر كثير من الكوادر الأكراد في أداء أدوار مركزية في الدولة الحديثة: ضباط، محافظون، و كذلك وزراء، و رئيس وزراء كما ظهر أدباء وفنانون أكراد أثّروا في الذوق السوري العام من دون تمييز قومي برزوا على المستوى العالمي لا سيما في بلدان الاغتراب الثقافة الكردية كجسر للتكامل الوطنيالثقافة الكردية ليست مجرد تعبير لغوي أو فولكلور محلي، بل مكوّن جوهري في البناء الرمزي للهوية السورية. فهي تمتلك طاقة ناعمة قادرة على الربط بين الجبال والسهول، بين البداوة والزراعة، بين الريف والمدن. هذه الثقافة، بما تحمله من تراكم تاريخي، ليست هامشًا بل محورًا يمكن أن يُعاد من خلاله تعريف فكرة الوحدة الوطنية المتعددة الثقافات.في جوهرها، تقوم الثقافة الكردية على قيمٍ متشاركة مع القيم السورية العامة: الشجاعة، الكرامة، احترام الضيف، تقديس الحرية، والارتباط العاطفي بالأرض. هذه المفاهيم ليست مجرد أخلاق فردية بل هي منظومة اجتماعية تنتج تماسكًا مجتمعيًا، يمكن أن يشكّل أساسًا لبناء الثقة الوطنية المفقودة بين المكوّنات.الفن الكردي، من موسيقى وصوت وآلات كالطنبور والدف، يُعبّر عن الشوق والحنين والانتماء، وهي مشاعر تُشبه تمامًا ما يردده الفلاح السوري في الأغاني الريفية في مناطق أخرى في الساحل السوري و الجنوب أو ما يغنيه البدوي في الصحراء. و بادية الشام هذا التشابه العميق يُظهر أن الفوارق اللغوية لا تعني الانفصال الثقافي، بل التنوع داخل وحدة وجدانية أوسع.وفي العقود الأخيرة، لعبت شخصيات فنية وأدبية كردية أدوارًا مهمة في تشكيل الوعي الثقافي السوري العام. فالممثل أو الشاعر أو المغني الكردي لم يكن يُنظر إليه بوصفه “من الأقلية”، بل كمبدع يشارك في صياغة الوجدان السوري المشترك. ومن هنا تأتي أهمية استثمار هذا التراث الثقافي في بناء نموذج جديد للدولة الوطنية الحديثة: دولة تُعامل التعدد بوصفه موردًا لا تهديدًا.تحتاج سوريا، بعد كل ما مرت به، إلى إعادة هندسة لعقدها الاجتماعي تقوم على الاعتراف المتبادل لا المجاملة الشكلية. والثقافة الكردية يمكن أن تكون النموذج الأمثل لهذه الهندسة، لأنها تملك ذاكرة مقاومة وذاكرة تعايش في آنٍ واحد.فحين تتقاطع الألحان الكردية مع المقامات الحلبية، وتختلط الحكايات الشعبية الكردية بالحكايات الدمشقية، يتجسّد الوطن في صورته الأجمل: وطنٌ يتكلّم بأكثر من لسان، لكنه يفكّر بقلب واحد.نحو دولة سورية حديثة تستوعب تنوعهاإنَّ إعادة بناء الدولة السورية الحديثة لا يمكن أن تنجح إلا إذا استندت إلى الهوية التعددية الواعية بذاتها. فالثقافة الكردية، بما تمثله من عمقٍ حضاري وإرث إنساني، ليست مجرد رافد من روافد الثقافة الوطنية، بل هي أحد أعمدتها التي تثبت معنى المواطنة الجامعة في مقابل الانتماءات الجزئية.الدولة التي تُدرك قيمة التنوع لا تُخشى فيها الهويات الفرعية، لأنها تُدار ضمن عقد وطني جديد يُكرّس العدالة والمشاركة والاحترام المتبادل. وهنا يبرز الدور الكردي كجسر بين الماضي والمستقبل، بين ما كان وما يمكن أن يكون، ليس في السياسة وحدها، بل في الوعي الجمعي ذاته.سوريا التي نريدها ليست دولة أحادية الصوت، بل دولة تنصت لكل لغاتها ولهجاتها وأغانيها، وتجعل من هذا التنوع طاقة إبداعٍ وإنتاج. وعندما تتسع الهوية الوطنية لتحتوي الكردي والعربي والآشوري والأرمني والدرزي والعلوي والمسيحي والمسلم، عندها فقط تُستعاد فكرة الوطن بوصفها مشروعًا إنسانيًا جامعًا لا رابطة جغرافية فحسب.هكذا تصبح الثقافة الكردية، بكل ما فيها من موسيقى الجبال ولغة الحنين ومروءة الريف، جزءًا من مشروع إعادة بناء الدولة السورية الحديثة: دولة تقوم على الاعتراف، والمواطنة، والإبداع المشترك، لا على الهيمنة أو التهميش.الإعداد مجموعة من الباحثي

ن في دار الشعب للنشرالاشراف د حسين راغب الحسين مدير الدار

زر الذهاب إلى الأعلى