اخبار ومتفرقات

أكبر طوائف لبنان: المهاجرون والمنكوبون

من منّا ليس نصفه راحلاً؟ إما إلى الاغتراب… أو إلى القبور.

كل يوم، يغادر لبنانيٌّ أرضه من بوابة المطار مودَّعاً، لكن بلا أمل في العودة، بينما يرحل آخر بقصفٍ من مسيّرةٍ إسرائيلية، دون وداع.

اليوم، ينشغل البعض بإحصاء الدمار الذي ألحقته إسرائيل بلبنان، بينما يتغافل كثيرون عن الخراب الأعمق: ذلك الذي نسجه زعماء الطوائف بأيديهم، وأكمله انهيار الدولة المالي والمصرفي على حساب مدّخرات الناس وأعمارهم. دمار إسرائيل المادي يمكن ترميمه، وحتى الشهداء الذين يسقطون بنيرانها، يتحولون إلى رمز للقوة، ويرفعون سقف المطالب الوطنية بتعزيز القرارات الدولية التي تحمي لبنان. أما خراب الحرب الأهلية فما زال يسكننا؛ جراحه غائرة في النفوس، ووصمته تشوه صورتنا أمام العالم كأمة قاتلت بعضها بعضاً. وأما سياسات الدولة المالية والمصرفية، فقد فتّت الأواصر الأسرية، وأغلقت المؤسسات، وحوّلت حياة الآلاف إلى جحيمٍ من المهانة والعوز.

من كان يظن أن تعويض نهاية خدمته يكفيه ليعيش ما تبقّى من عمره بكرامة، صار اليوم يتمنى الموت، لأن كرامته أصبحت عبئًا على عائلته، وقوت يومه استجداءً، ودواؤه حلمًا بعيد المنال. والمفارقة أن العالم الذي لم يحتمل أن يعاني النازحون على أرض لبنان ما يعانيه أهلها، فأمّن لهم المسكن والطبابة والتعليم، هو نفسه الذي يقف متفرجاً على معاناة المواطن. فهل أحصى أحد عدد اللبنانيين الذين أنهوا حياتهم عجزاً عن تأمين رغيف خبز أو حبة دواء؟

لقد فقد اللبنانيون الأمل في وطنهم، وفقد العالم الأمل ان يبقى لبنان.

تهاوى الوطن، فهُدمت جدرانه وتمزقت أحلام أهله، وقُوِّضت أركان الطمأنينة. بات القلق خبز اللبناني اليومي، وأمسى الغد مجهولاً، وكأن الوطن والمواطن يعيشان كل صباح على قيد انتظار الهجرة. حتى بتنا نتساءل: هل تراب هذا الوطن المقدس يلفظنا، أم أننا نحن من نشعر بالغربة فيه، فنهجره بلا تردد وعودة؟

 

لا يجب أن يبقى لبنان مجرد مسرحٍ للصراعات الإقليمية أو التجاذبات المحلية؛ فلبنان بلد يعيش هدنةً أطول من القيامة نفسها، وشعبه يموت كل يوم ألف مرة. لقد خفتت أصوات المدافع لترتفع أصوات الانقسام، والجروح لم تندمل بعد. لم تكن الحرب مجرد اشتعال للنار والرعب والدمار، بل أصبحت نمط حياة وسياسة فُرِضت على المجتمع، وتراكمت رواسبها عبر عقود حتى غدت حواجز تمنع اللبناني من لقاء أخيه. لن ينهض هذا الوطن إلا إذا أدرك كيف يُعيد لمّ شمل مواطنيه قبل أن يُعيد ترميم جدران طوائفه.

 

نعم، إنها الحقيقة وما أقساها: الحرب لم تغادر عقولنا. الانقسام الطائفي ليس مجرد مشكلة “عابرة”، بل هو أزمة تنشئة وهوية. حين يصبح الانتماء إلى الطائفة أصلاً والولاء للوطن فرعًا، تهتز القيم الأساسية للمجتمع. لا يمكن لوطن أن يقف على قدميه إذا ظل كل مواطن يرى في الآخر “خصمًا مؤقتًا” أو “مساحة محظورة”.

ليس سرًا أن حلول لبنان، من الانتداب إلى الطائف، كانت دومًا مستوردة؛ تسويات تُفرض من الخارج بدلاً من أن تنبع من بناء داخلي متين وصادق.

في كل دول العالم، تُبنى المتاحف لتذكير الأجيال بفظائع الماضي. أما في لبنان، فالذاكرة مبتورة. وإن لم نعترف بجراحنا ونعالجها بصدق، فسنظل نكرر مآسينا.

كل طائفة تطالب بالاستفتاء على حجمها، بينما الهجرة هي أصدق استفتاء؛ فملايين اللبنانيين في الشتات هم الطائفة الاكبر والاصدق لواقع لبناني مؤلم. 

اللبناني الحقيقي ليس من يزرع الخوف ويرفع أسوار طائفته، بل من يهدم متاريسه ليبني جسورًا نحو الآخر. لا نريد ألقابًا وشعارات في ذكرى نكساتنا، بل نريد التزامًا يوميًا يُترجم إلى ممارسات. الأوطان لا تُنقَذ ببيانات التضامن، بل بخطوات ملموسة تُقنع المواطن بأن العيش معًا خيارٌ مجدٍ ومربح للجميع.

في الختام،

أيها اللبنانيون، إن كنتم تريدون الانتصار على أعدائكم الحقيقيين، فابدأوا بالانتصار الأعظم: وحدة لبنان. اجمعوا صفوفكم لتلتئموا، كما اجتمعتم يومًا لتتقاتلوا. فما حفرتموه بأيديكم من مقابر وما بنيتموه من دمار، يمكنكم بأيدٍ أخرى أن تبنوا فوقه صرحا للتلاقي والحوار.

إن بقي الحال على ما هو عليه، فلن يبقى لبنان، ولن يأسف عليه أحد. فالمجتمع الدولي، وعلى رأسه الولايات المتحدة، أرسل رسالة واضحة: اتفقوا فيما بينكم، وإلا فإن لبنان سيعود الى بلاد الشام.

فهل نختار الطائفية، أم نختار لبنان؟ بالختام إنهما نقيضان لا يجتمعان. الخيار لكم.

زر الذهاب إلى الأعلى