 
 سلسلة مقالات تثقيفية تصدر عن دار الشعب للنشر
يشكّل البعد العشائري أحد أعمدة الهوية الاجتماعية السورية، ليس بوصفه موروثًا تقليديًا فحسب، بل كمنظومة قيمٍ وولاءاتٍ تشكّلت عبر قرون من التفاعل مع البيئة الجغرافية والسياسية.
فقد كانت القبيلة الإطار الذي نظم العلاقات الاقتصادية والاجتماعية في البادية والريف قبل ظهور مؤسسات الدولة الحديثة، ومثّلت سلطة موازية تستند إلى الأعراف والعصبية والمروءة.مع دخول الاحتلال العثماني، ثم مرحلة الانتداب الفرنسي، بدأ التحول في موقع العشيرة: من وحدة سياسية–عسكرية مستقلة إلى مكون اجتماعي تحت سلطة الدولة المركزية.
غير أن هذا التحول لم يكن انقطاعًا تامًا، بل إعادة تموضعٍ داخل منظومة السلطة الجديدة، فاحتفظت العشائر بوزنها الرمزي والعرفي، وبقيت سلطة الشيخ إلى جانب سلطة القانون، خاصة في المناطق الحدودية والريفية.بعد الاستقلال، ساهم أبناء العشائر في تأسيس الجيش والإدارة، وبرز منهم عدد من القادة والسياسيين، ما جعلهم شركاء فعليين في تكوين الدولة الوطنية.
ومع التحولات الاقتصادية والاجتماعية في السبعينيات وما بعدها، تراجع حضور العشيرة المباشر لصالح البيروقراطية الحزبية والعسكرية، دون أن تفقد مكانتها في الوعي الاجتماعي.
بقيت القبيلة “مخزن الولاء” في الأزمات، و”شبكة الأمان” في فترات الانهيار المؤسسي.
وفي الأزمة السورية منذ عام 2011، عادت العشائر إلى الواجهة لا بوصفها كيانًا بدويًا، بل كفاعل اجتماعي يسعى لاستعادة التوازن الوطني. بعض العشائر تموضعت ضمن الدولة، وبعضها انجرف في الصراع المسلح، بينما بقي القسم الأكبر متريثًا، حريصًا على عدم الانزلاق في الانقسام الأهلي.
هذا السلوك يعكس نضجًا سياسيًا واجتماعيًا متناميًا في الوعي العشائري، عنوانه الانتقال من العصبية إلى البراغماتية الوطنية.تحولات البنية العشائرية بعد 2011: من الولاء إلى التفاوض الوطنيمنذ عام 2011، واجهت العشائر العربية اختبارًا وجوديًا غير مسبوق.
فالدولة التي كانت الإطار الحامي دخلت في أزمة بنيوية، ما دفع العشائر إلى إعادة تعريف علاقتها بالسلطة وبالفاعلين المحليين والإقليميين.
انقسمت المواقف بين الاصطفاف إلى جانب الدولة دفاعًا عن الاستقرار، والانخراط في المعارضة بفعل الضغوط الخارجية أو الحسابات المناطقية، وبين من اختار الحياد العملي حفاظًا على نسيجه الداخلي.
الأهم من الانقسام هو التحول في وظيفة العشيرة: من كتلة ولاء تُستخدم لضبط المجتمع أو دعم السلطة، إلى كيانٍ يفاوض على موقعه ودوره في خريطة النفوذ الجديدة.
برزت مجالس عشائرية وأطر تمثيلية تحمل خطابًا سياسيًا واجتماعيًا متباينًا، بعضها وطني النزعة، وبعضها خاضع للتجاذبات الإقليمية. يعكس هذا التحول انتقال العشيرة من “تابع للدولة” إلى “شريك محتمل في إعادة بنائها”، وهي نقلة فكرية عميقة في مفهوم الشرعية والهوية.في المناطق الشرقية والشمالية، لعبت العشائر دور الوسيط بين القوى المحلية والإدارة الذاتية، محاولة حماية مصالحها الاقتصادية والاجتماعية وسط واقع شديد التعقيد.
أما في الجنوب، وخصوصًا درعا والسويداء، فقد شكّلت البنية العشائرية أحد عوامل التوازن الأهلي، مانعةً انزلاق الأوضاع نحو صراع شامل.
وهكذا استُعيدت الوظيفة التاريخية للعشيرة كآلية ضبط اجتماعي بديل عن مؤسسات الدولة الغائبة، مما أعاد لها مكانتها كركيزة للاستقرار الأهلي.العشائر العربية والهوية الوطنية المستقبلية: من الانتماء المحلي إلى العقد الاجتماعي الجديديمثل الوجود العشائري في سوريا اليوم أحد أعمدة إعادة بناء الهوية الوطنية، لا بوصفه بقايا من الماضي، بل كطاقة اجتماعية يمكن أن تسهم في صياغة عقد اجتماعي جديد أكثر واقعية وتجذرًا في الوجدان الشعبي.
فالانتماء العشائري لم يعد نقيضًا للمواطنة، بل يمكن أن يكون رافدًا لها إذا أعيدت صياغة العلاقة بين الدولة والمجتمع على أساس الاعتراف بالهويات الفرعية ضمن إطار وطني جامع.تتوزع العشائر العربية جغرافيًا على كامل الخريطة السورية:في الشرق (دير الزور والحسكة) كبرى العشائر مثل العكيدات، البكارة، شمر، الجبور، البوحمدان؛في الشمال تمتد عشائر الولدة، العنزة، بني خالد، السبخة، والبو سرايا من ريف الرقة حتى حلب؛في الوسط (حمص وتدمر والبادية) نجد عنزة، بني حسن، الموالي، الحديديين؛أما في الجنوب (درعا والسويداء) فتبرز عشائر النعيم، بني خالد، الزعبي، والمسالمين، التي كان لها أدوار وطنية وتوازنات أهلية حاسمة.ورغم تاريخها المليء بالتنافسات، حافظت العشائر على ما يمكن تسميته “العقد العشائري الوطني”؛ وهو الإطار غير المكتوب الذي جمعها على قيم الشرف والانتماء وحماية الأرض، وشكّل امتدادًا شعبيًا للعقد الاجتماعي السوري.
إلى جانب ذلك، تمتلك العشائر امتدادات عبر الحدود إلى العراق والأردن ولبنان والخليج، ما يجعلها عامل تواصل حضاري لا تهديد للسيادة. هذا الامتداد يمكن أن يتحول إلى شبكة دعم للعلاقات العربية–العربية، إذا تم استثماره ضمن رؤية وطنية واقعية.
إن استيعاب هذه البنية الاجتماعية ليس ترفًا فكريًا، بل ضرورة سياسية وتنموية. فالعشائر تمثل قاعدة المجتمع الأعمق، ويمكنها أن تكون أداة توطيد للدولة الحديثة عبر المساهمة في الإدارة المحلية، وحل النزاعات، والمشاركة في التنمية الريفية.
إعادة الاعتبار للدور العشائري لا تعني العودة إلى ما قبل الدولة، بل ردم الفجوة بين البنية الاجتماعية العميقة والكيان السياسي الحديث.خلاصة واستنتاجات فكرية
1. العشائر العربية ليست بقايا من الماضي، بل تمثل الذاكرة الحية للمجتمع السوري ومخزونه الاجتماعي الأعمق.
2. التحول من الولاء إلى التفاوض بعد 2011 يعبّر عن نضج سياسي ووعي جمعي جديد بالهوية الوطنية.
3. “العقد العشائري الوطني” ظل قائمًا رغم الصراعات، مؤكدًا قدرة المجتمع السوري على إنتاج توازنه الداخلي.
4. الامتداد الإقليمي للعشائر يشكّل فرصة لتعزيز التكامل العربي إذا أُحسن استثماره سياسيًا وتنمويًا.
5. دمج البنية العشائرية في مشروع الدولة الحديثة ضرورة لإنتاج عقد اجتماعي أكثر واقعية وعدالة.ختامًا، تمثل العشائر العربية العمق الشعبي لسوريا، ذاك الذي حافظ على تماسكها حين تفككت مؤسساتها، وظل يحمل وعيًا وطنيًا فطريًا يقوم على الكرامة والانتماء، وهو الأساس الذي يمكن أن تبنى عليه الدولة السورية الجديدة.
الإعداد مجموعة من الباحثين في دار الشعب للنشر
الاشراف حسين راغب الحسين مدير الدار
 
  
  
 