
منذ الأمس، لا تهدأ الأسئلة التي توجه الي عن أسباب التوتر المتصاعد بين رئيس مجلس النواب نبيه بري، وفريق مسيحي تتقدمه “القوات اللبنانية”.
أسئلة تحمل في طياتها أكثر من خلافٍ انتخابي، وأعمق من قانونٍ يُراد تعديله.
ولأنني أعرف ما يدور في أعماق المشهد الماروني، وأعيش الراي العام المسيحي، أقولها بوضوح: الأزمة ليست وليدة اللحظة، ولا هي معركة على مقعدٍ أو صوتٍ نيابي، بل هي انعكاس لصراعٍ طويل على هوية القرار في لبنان.
القانون الانتخابي فجر الازمة، أمّا الجوهر فهو صراع بين مشروعين:
مشروعٍ يريد إعادة رسم التوازن الوطني بمنظورٍ غربيٍّ – عربي، ومشروعٍ يتمسّك بتركيبةٍ قائمةٍ على تحالف الطائفة الشيعية مع حلفائها.
القوات اللبنانية ترى في الانتخابات المقبلة فرصةً ذهبية لاستكمال مشهدٍ سياسيٍّ يقود إلى بعبدا. فالمعادلة بسيطة:
أكثرية نيابية، تُمهد لرئيسٍ توافقيٍّ مسيحيٍّ هو الدكتور سمير جعجع. وحكومة حليفة من دون الثنائي الشيعي.
ولذلك، تسعى القوات إلى خوض معركتها على مستويين:
الأول، تكريس الزعامة المسيحية المطلقة “خاصة المارونية”، والثاني، اختراق التمثيل الشيعي ولو بمقعدٍ واحدٍ يُحدث شرخًا في الثنائي الشيعي، ويمهّد لبرلمانٍ بلا نبيه بري.
في المقابل، يحظى هذا المشروع بدعمٍ غربيٍّ معلن، وبقبولٍ سعوديٍّ واضح، على اعتبار أن جعجع اليوم هو رأس الحربة في المواجهة السياسية مع النفوذ الإيراني في لبنان.
لكن ما يُقال في المجالس لا يقلّ أهمية عما يُقال في العلن:
هناك من يعتقد أن نهاية عهد بري في البرلمان قد تفتح الباب أمام مرحلة جديدة، تُعاد فيها صياغة النفوذ الشيعي في لبنان ضمن معادلاتٍ أكثر هشاشة، وربما أكثر انكفاء.
الرئيس نبيه بري، الذي تجاوز السابعة والثمانين، ما زال يمسك بخيوط اللعبة السياسية رغم الإعياء والضغوط.
كثير من الموفدين الأجانب الذين التقوه مؤخراً خرجوا بانطباعٍ واحد: الرجل مُتعَب، لكنه لم يفقد حنكته. إلا أن حسابات السياسة الدولية لا تعترف بالعمر فحسب، بل بموازين القوى.
هناك من يقرأ التحركات الغربية والعربية على أنها تمهيدٌ لمرحلة عقوباتٍ تطال شخصياتٍ شيعية وازنة، وهي ستكون قبل الانتخابات النيابية.
وفي الكواليس، يُتداول حديثٌ واضح: أن أي تصعيدٍ خارجي (منها العقوبات) ضد “الثنائي” يجب ان يكون لها غطاء داخلي،
وقد عبّر الشيخ نعيم قاسم، كما بعض النواب الشيعة في عملية استباق لما هو قادم، عن ضرورة تحييد العقوبات عن الداخل اللبناني، تفادياً لانقسامٍ جديدٍ يهدد الوحدة الوطنية نفسها.
كل هذه المتغيرات تتطلب من خصوم الثنائي الشيعي بما فيهم الدول الذين يرون في الرئيس بري “البوابة السياسية” لحزب الله، وصوته المقبول خارجيا، أن إقصاءه يعني كسر التواصل الشيعي مع العالم.
لكن الازمة الحقيقية لا تكمن في موقع بري فقط، بل في الشيعة، بعد أربعة عقود من الحضور القوي، لم ينجحوا في بناء علاقات سياسية اقليمية او دولية، ومن دون بديلٍ سياسيٍّ وطنيٍّ منفتح يشبه الرئيس بري، فأن الطائفة الشيعية قد تدخل في غيبوبةٍ سياسية طويلة، تتجاوز عقدين من الزمن.
أما على الأرض، فقد كان يُعوَّل على انتزاع مقعدٍ شيعي في جبيل لتكريس “الاختراق الرمزي”.
لكن الواقع الانتخابي هناك يروي غير ذلك: شيعة جبيل بقوا على ثباتهم، في وئامٍ تامٍ مع المكوّن المسيحي، بما فيهم القواتيون أنفسهم.
لا استفزازات، ولا عداء، بل منافسة ديمقراطية محصورة في صناديق الاقتراع، ومما يؤكد عدم سقوط المرشح الثنائي الشيعي في جبيل. هوما لمح اليه الخبير الانتخابي جان نخول عندما ركز: على مخاوف واقعية، لدى الثنائي، وخشية من أن يجري “تجييشٌ اغترابيٌّ” يغيّر في توازن الأصوات، ويفتح ثغراتٍ في الدوائر الحساسة مثل بعبدا أو الجنوب الثانية، حيث المقعد الشيعي مقياس النفوذ.
يبقى احتمالٌ ثالث، لا يُقال بصراحة بعد، وهو أن الرهان على الدعم والمساعدات الخارجية “الغربية والعربية” لن يكون كما يتوقعه اللبنانيين، لأسبابٍ تتصل بتدهور الاقتصاد العالمي وأزمة اوكرانيا والدمار في غزة وسوريا، وتراجع قدرة أوروبا على الدعم كما في الماضي.
موازاة ذلك، بدأ يتشكّل تفكيرٌ جديد بين المغتربين اللبنانيين، وهو العودة إلى الوطن، شرط أن يستتبّ الاستقرار وينتهي شبح الحرب.
من هنا، بدأت محاولاتٌ فعلية لإعادة جذب المغتربين، لا بوصفهم اصوات انتخابية او مصدر دعمٍ مالي فقط، بل شركاء في صناعة القرار الوطني المقبل.
وقد برز في هذا السياق حراكٌ “مسيحيٌّ نشط — كنسيٌّ وسياسيٌّ معًا” يعمل على تهيئة ظروف العودة، بعدما بدأت أسباب الاغتراب القسري، خصوصًا للمسيحيين، بالانحسار.
إنّ الدعوة إلى العودة، كما يُفكّر بها أصحاب هذا الحراك، ليست دعوةً انتخابيةً أو ظرفية، بل مشروع حياة، وإعادة وصلٍ بين اللبناني ولبنانه
اليوم الطائفة الشيعية أمام مرحلة لم تعهدها.
لم تعد المواجهة مع إسرائيل وحدها الخطر، بل الخطر الأكبر هو العزلة السياسية الداخلية، والتعب المجتمعي الذي يهدد وحدة القرار.
لقد دخل لبنان والمنطقة طوراً جديداً من التحوّلات، والسؤال ليس من ينتصر في الحرب لان زمن الحروب الكلاسيكية قد انتهى، بل: هل سيمتلكون الشيعة الليونة السياسية الكافية للخروج من المعركة باقل الخسائر، ام يذهبون للمواجهة بالحرب وهكذا يخسرون كل شيء؟
المقال يعبر عن رأي الكاتب وليس رأي الموقع، شكرا على المتابعة.