اقلامالسياسية

الحاج محمد عفيف… بعد عام وبعد مئات الأعوام، صوتٌ لا يُغتال وقصائد لا تنتهي، انه صانع وصائغ الرواية

مقدمة رثاء

في ذكرى رحيلٍ لا يشبه سوى رجالات القرن، نقف اليوم أمام سيرة رجلٍ لم يكن مجرّد إعلامي، ولا مجرد قائد، بل كان من طينة أولئك الذين يعبرون الأزمنة كالأضواء، يتركون في الوجدان أثرًا لا يُمحى. نستعيد الحاج محمد عفيف لا بوصفه شهيدًا فحسب، بل باعتباره مدرسة قائمة بذاتها، صانع رواية المقاومة، ومهندس وعيٍ جمعيٍّ صلب، حمل الكلمة كما يحمل المجاهد بندقيته، فكان في كل ميدانٍ حيث تقتضي المعركة حضورًا وعزمًا وثباتًا.

عامٌ على غيابه، وما زالت ابتسامته الحازمة، وصوته الهادئ الواثق، ووقوفه على الركام متحديًا القصف والتهديد، تشهد على رجلٍ عاش عمره كما لو أنه يُمضي وصيته الأخيرة. لم يكن الحاج محمد موظفًا في المقاومة، بل كان روحًا في جسد المقاومة، رفيقًا للسيد حسن نصرالله منذ أيام النجف، مؤتمنًا على الكلمة، على الصورة، وعلى سرّ الصمود. ومع كل محطة رسم فيها ملامح الخطاب المقاوم، كان يؤسّس لبنية إعلامية متينة تمتد من الجنوب إلى بيروت، ومن لبنان إلى كل ساحات الحق في العالم.

لقد حمل أمانة الشهداء كما يحمل الأخ الأكبر وجع العائلة، فظلّ ثابتًا بعد الفقد الكبير، مؤمنًا بأن “الأمة لا تموت”، وأن النصر يُصنع من صبر الكبار. وحين ترجّل السيّد، بدا كأن جرحًا فُتح في صدره لا يندمل، لكنّه أكمل الطريق بصلابةٍ تشبه وصلات الفولاذ التي تُقام فوق أنقاض المدن.

اليوم، ومع الفعاليات التكريمية التي تُقام وفاءً لذكراه، ندرك أنّ هذا الرجل لم يكن عابرًا بيننا، بل شجرة أرز تجذّرت في تاريخ المقاومة، وكلما هبّت عليها رياح الحرب ازداد ظلها اتساعًا. رحل الحاج محمد عفيف، لكن الرواية التي كتبها بعرقه وصموده ودمه، ستبقى تحرس الذاكرة، وتعلّم الأجيال أنّ الكبار وحدهم يخلّدون الكلمة… والكلمة وحدها تصنع الخلود.

Video preview

 

برنامج الوفاء لروح الشهيد القائد الإعلامي الحاج محمد عفيف، الذي اغتالته غارة إسرائيلية في منطقة رأس النبع ببيروت. ويأتي هذا التكريم تقديرًا لمسيرته الحافلة بالعطاء في خدمة المقاومة إعلاميًا وسياسيًا.

برنامج الفعاليات التكريمية:

  • السبت، 15 نوفمبر 2025: إزاحة الستار عن اللوحة التذكارية في “اللقاء الإعلامي الوطني” ظهرًا.
  • الأحد، 16 نوفمبر 2025: حفل تكريمي في قرية البيسارية، الساعة 6:30 مساءً.
  • الاثنين، 17 نوفمبر 2025: حفل تكريمي في مجمع المجتبى – بيروت، يتخلله كلمة للأمين العام، الساعة 3:30 بعد الظهر.
  • الثلاثاء، 18 نوفمبر 2025: حفل تكريمي وشهادات من إعلاميين برعاية السفير الإيراني في دار السفارة الإيرانية، الساعة 2:30 بعد الظهر.
  • الأربعاء، 19 نوفمبر 2025: حفل تكريمي وشهادات من أصدقاء في مجمع السيدة الزهراء (ع)، الساعة السادسة مساءً.

صانع رواية المقاومة

كرّس الحاج محمد عفيف حياته لخدمة المقاومة، حيث مارسها بكل أشكالها، من حمل البندقية في الميدان إلى قيادة الحرب الإعلامية. وصفه معاون رئيس المجلس التنفيذي في حزب الله، الحاج عبدالله قصير، بأنه “رفيق العمر منذ بدايات الشباب”، مؤكدًا إيمان عفيف بأن “قوافل الشهداء تصنع النصر”. حتى بعد استشهاد الأمين العام السيد حسن نصرالله، الذي كان له الأثر العميق في نفسه، ظل عفيف ثابتًا في أداء واجبه، معتبرًا أن “المقاومة أمة، والأمة لا تموت”.

خلال الحرب الإسرائيلية الأخيرة، ورغم حزنه العميق على فقدان “سيده وروحه”، قاد الحاج محمد الجبهة الإعلامية بقوة، داحضًا أكاذيب العدو ومبثًا روح العزيمة في نفوس الناس. كان يختار أماكن مؤتمراته الصحفية بعناية، فإما أن تكون فوق ركام الأبنية المدمرة أو بين أضرحة الشهداء، في رسالة تحدٍ وصمود. وقد أكد شقيقه الشيخ صادق أنه تلقى تهديدات مباشرة خلال أحد المؤتمرات، لكنه لم يتراجع وأكمل كلمته قائلًا: “لم تخفنا الصواريخ فكيف تخيفنا التهديدات؟”.

إمبراطور الإعلام

وصف الكاتب ناجي علي أمهز الشهيد عفيف بأنه “إمبراطور الإعلام”، ليس بمنصبه بل بتأثيره الذي أسس لوعي وحضارة في وجدان المقاومة. لقد بنى منظومة إعلامية مترامية الأطراف، وحوّل مكتب العلاقات الإعلامية من مجرد “فاكس بسيط” إلى إمبراطورية تأثير تمتد من بيروت إلى أقاصي العالم.

يعود الفضل للحاج محمد في تأسيس الفكر الإعلامي لحزب الله منذ البدايات. ويروي شقيقه الشيخ صادق كيف ساهم عفيف في تأسيس مركز إعلامي متطور في الجنوب في عهد الأمين العام الأسبق الشهيد السيد عباس الموسوي، والذي كان نواة للعمل الإعلامي المنظم للمقاومة. كما لعب دورًا محوريًا في تأسيس إذاعة “صوت المستضعفين” (إذاعة النور لاحقًا)، وفي إدارة الأخبار والبرامج السياسية في تلفزيون المنار منذ عام 2005.

خلال حرب تموز 2006، برز دوره القيادي بشكل لافت، حيث لم يغادر غرفة الأخبار يومًا واحدًا، وكان حاضرًا ليل نهار لضمان وصول صورة وصوت المقاومة إلى العالم، حسب شهادة مسؤول العمليات في الأخبار آنذاك، مروان عبد الساتر.

المستشار الأمين

امتدت علاقة الحاج محمد عفيف الوثيقة بالسيد حسن نصرالله منذ أيام الشباب في النجف الأشرف، وتعمقت في لبنان مع انخراطهم في مسيرة المقاومة. شغل عفيف منصب المستشار الإعلامي للسيد، مواكبًا حركته السياسية وإطلالاته الإعلامية ومنظمًا للقاءاته الصحفية. كان السيد يحرص على الاستماع لرأيه، نظرًا لما كان يمتلكه عفيف من قدرة على تلخيص الأجواء الإعلامية ونقلها بصدق وشفافية.

كما برع الشهيد في بناء جسور من الثقة مع الإعلاميين من مختلف الانتماءات، وأسس وأشرف على “اللقاء الإعلامي الوطني”، الذي جعله إطارًا جامعًا وفاعلًا، معبرًا عن فكرة المقاومة ببعدها الوطني.

بعد استشهاد السيد نصرالله، تغير حال الحاج محمد، حيث بدا الحزن واضحًا عليه، وكأنه حمل الفقد في صدره حتى فاضت روحه شهيدًا على الدرب ذاته. لقد ترك برحيله فراغًا كبيرًا في الساحة الإعلامية، لكنه سيبقى قصة لا يجف حبرها، ورواية خالدة في تاريخ المقاومة.

 

 

زر الذهاب إلى الأعلى