السياسية

استبعاد ناعم أم ضغط صريح؟ قراءة في خلفيات إلغاء زيارة قائد الجيش إلى واشنطن

بقلم: لبنى عويضة…


خاص: جريدة الرقيب الإلكترونية

لم يكن صباح اليوم عابرًا في بيروت. خبر واحد كان كفيلًا بإعادة فتح الأسئلة حول موقع الجيش اللبناني في ميزان السياسة الدولية. فإلغاء زيارة قائد الجيش العماد رودولف هيكل إلى واشنطن لم يأتِ نتيجة خطأ بروتوكولي أو ظرف طارئ، بل بدا تتويجًا لمسار من التوترات المكتومة التي بدأت قبل أشهر وخرجت اليوم إلى العلن على شكل خطوة تحمل أكثر مما تقوله.

الشرارة الأولى… كلمة أشعلت حساسية واشنطن

تشير المعطيات إلى أنّ جذور الأزمة تعود إلى زيارة الوفد الأميركي إلى بيروت في آب الماضي، حيث عرض العماد هيكل خطة الجيش للانتشار جنوب الليطاني. وفي إحدى صفحات العرض استخدم مصطلح “العدو” للإشارة إلى الجيش الإسرائيلي ــ وهو توصيف يستند إلى الدستور اللبناني ــ لكنّه أثار امتعاض السيناتور الأميركي ليندسي غراهام، الذي عبّر عن اعتراض شديد وتعهّد منذ ذلك الحين بأن تكون خطوات الجيش تحت الرقابة.

منذ تلك اللحظة، تغيّر التعامل الأميركي مع قائد الجيش. كلمة عادية في السياق اللبناني تحوّلت في واشنطن إلى مؤشر حساس على اتجاهات المؤسسة العسكرية وحدود خطابها.

إلغاء أم انسحاب؟ الفارق سياسي لا لغوي

تقول رواية المؤسسة العسكرية إن العماد هيكل «ارتأى عدم السفر» بعد أن ألغى الجانب الأميركي عددًا من المواعيد الأساسية ضمن برنامج الزيارة. هذا التعبير المدروس هدفه الحدّ من وقع الخطوة الأميركية وحماية موقع قائد الجيش داخل المشهد الداخلي.

لكنّ واقع الأمور أوضح: الإلغاء كان رسالة أميركية، والانسحاب اللبناني كان ردًّا مباشرًا عليها.
فالولايات المتحدة لا تلغي لقاءات رفيعة المستوى مع طرف تعتبره شريكًا أمنيًا أساسيًا في المنطقة، إلا عندما ترغب في توجيه رسالة سياسية تتجاوز البروتوكول.

نجاح الجيش جنوبًا… وانزعاج بعض دوائر القرار الأميركي

بين آب وتشرين الثاني، نفّذ الجيش اللبناني خطة الانتشار جنوب الليطاني كما التزم بها. وقد أثنت مصادر عدة على أداء المؤسسة العسكرية، واعتبرته «جيدًا جدًا» لناحية التعامل مع البيئة الحسّاسة، والتنسيق مع الجهات المحلية، ومنع الانزلاق إلى أي توتر داخلي أو مواجهات غير محسوبة.

إلّا أنّ هذا النجاح لم يرضِ بعض الأطراف داخل الإدارة الأميركية التي تميل إلى تبنّي الرواية الإسرائيلية للأحداث وتفضّل حصر دور الجيش اللبناني ضمن هامش ضيق. فكل خطوة نفّذها الجيش بثبات وواقعية قُرئت هناك كإعادة تموضع غير مرغوب فيها.

اليونيفيل… عقدة إضافية في مشهد معقّد

ازداد المشهد حساسية مع صدور تقارير اليونيفيل التي وثّقت بوضوح الخروقات الإسرائيلية، وأشادت باستقرار الوضع بفضل التنسيق مع الجيش اللبناني. هذه الشهادة لم تنسجم مع توجهات بعض الشخصيات في الإدارة الأميركية التي تعمل منذ أشهر على تقليص تمويل اليونيفيل أو الحد من دورها.

وتفاقم التوتر بعدما دافعت قيادة الجيش علنًا عن اليونيفيل إثر الاعتداء الإسرائيلي الأخير عليها، وهو موقف لم يمرّ بسهولة لدى الجهات الأميركية الأكثر تشددًا.

رسائل متبادلة… وقرار لبناني محسوب

إلغاء المواعيد الأساسية من الجانب الأميركي دفع العماد هيكل لاتخاذ قرار عدم السفر، في خطوة هدفت إلى تجنّب الإحراج ورفض الظهور بمظهر الملتزم بشروط مسبقة أو مستوى استقبال أدنى. وفي المقابل، شدّد الجيش اللبناني على التزامه تنفيذ خطة الحكومة المتعلقة بحصر السلاح وانتشاره في مختلف المناطق، في رسالة مفادها أنّ المؤسسة العسكرية تتحرك وفق المصلحة الوطنية لا وفق اختبار نيات خارجي.

ماذا بعد الإلغاء؟

تبدو واشنطن اليوم في مرحلة مراجعة شاملة لدورها في لبنان، بعد اقتناعها بأنّ سنوات الدعم المالي والعسكري لم تُنتج بعد الشريك العسكري «الواضح» الذي تطمح إليه. ومن هنا جاء الإلغاء كاختبار للنوايا أكثر مما هو تعديل تقني.

فهي تريد موقفًا أكثر وضوحًا من ملف سلاح حزب الله، والتزامًا كاملًا بالخطة الحكومية، وإعادة تحديد موقع الجيش في أي مواجهة مقبلة، بالإضافة إلى فصل أكبر بين المؤسسة العسكرية والتوازنات السياسية الداخلية. ومن أجل ذلك، لا تتردد في استخدام أدوات الضغط، حتى تلك التي تتخذ شكلًا بروتوكوليًا.

في المقابل، يسعى الجيش إلى الحفاظ على تماسكه الداخلي قبل أي حساب خارجي، ويدرك أن الاستجابة العمياء للضغط الخارجي قد تمزّق توازناته، بينما الرفض الكامل قد يضعه في مواجهة غير محسوبة.

معادلة جديدة بلا ضجيج

ما جرى لا يعني القطيعة، لكنه يعيد رسم حدود العلاقة. فواشنطن تريد جيشًا فاعلًا ضمن سقفها السياسي، والجيش يريد الحفاظ على استقلالية قراره وعلى موقعه الوطني بلا تصادم مع أحد. وبين هذين الخطين، جاء إلغاء الزيارة ليشير إلى مرحلة أكثر وضوحًا وأقل مجاملة، مرحلة تكشف أنّ المؤسسة العسكرية لم تعد مجرّد متلقٍ للمعادلات بل طرف يحاول أن يرسم موقعه بقدر ما تسمح به الظروف اللبنانية الدقيقة.

زر الذهاب إلى الأعلى