
في كل 22 تشرين، يعلو النشيد في بلدٍ لا يسمع نفسه، وترتفع الأعلام فوق أرضٍ لم تتذوّق طعم القرار الحرّ يومًا. الاحتفال قائم، لكن الاستقلال غائب… غيابًا فاضحًا يُغطّيه الخطاب الرسمي بلوحات شاشات ومصافحات باردة.
الوطن الذي يُفترض أن يصنع مصيره داخل حدوده، صار يُصاغ مستقبله على طاولات لا تعرف حرارة ترابه. من تشكيل الحكومات إلى أدقّ التعيينات، القرار يُصنع خارج بيروت ثم يُسلّم للطبقة الحاكمة كمسوّدة جاهزة، مهمّتها الوحيدة: الامتثال. الأميركي يرفع حاجبه، فيتغيّر مسار ملف. يلوّح بعقوبة، فتتكوّن حكومة. يبتسم، فيتسابق الساسة إلى تفسير ابتسامته كأنها حدث تاريخي.
البلد محكوم بشبكة أوامر غير معلنة، تُكتب في السفارة، وتُترجم في مجلس الوزراء، وتُنفَّذ في الإدارات العامة. السياسات المالية، الحدود البحرية، الملفات الأمنية، وحتى موعد جلسة انتخاب رئيس، كلها تحتاج “ضوءًا خارجيًا”… ضوء أقوى من كل الدساتير.
بعض السياسيين عندنا أصبحوا أدوات تنفيذ لا أكثر، يغيّرون مواقفهم حسب درجة حرارة المزاج الأميركي. يرفعون السقف في الإعلام، ثم ينحنون في الغرف المغلقة، ويتصرّفون كأنّ واشنطن هي المالك الشرعي للبلد، وهم مجرّد موظّفين ينتظرون تعليماتها. قوّة الدولة تُقاس بدرجة رضا السفارة، لا برضا الشعب.
أمّا الاقتصاد فمربوط بحبلٍ واحد: هزّته تهتزّ الليرة، شدّه يُخنَق السوق، تركه ينهار البلد. المؤسسات الدولية تمسك رقبة الاقتصاد، والقرار الأميركي يمسك رقبة المؤسسات. لا كهرباء بلا موافقة، لا استثمار بلا إشارة، لا مصرف بلا دفتر شروط مرسوم من الخارج.
والناس؟ الناس تحوّلوا إلى جمهور يشاهد سقوط وطنه ببطء. الحرية تخضع للمراقبة، القضاء يخضع للتهديد، الإعلام يخضع للضغط، والحقائق تخضع للتمويه. المواطن وحده يُحاسَب، أمّا أصحاب النفوذ فمحمون بـ“الفيتو” الأجنبي قبل الحماية المحلية.
وفي ظلّ هذا المشهد، يصبح 22 تشرين مجرد لوحة احتفالية معلّقة على جدار مُتهالك. مناسبة تقول ما نريد سماعه، بدل أن تقول ما نحن مضطرّون لمواجهته. لا شيء أقسى من عيدٍ يحتفل بصيغة لا تمتلك أرضًا تقف عليها.
حين يتحرّر القرار من يد الخارج، تحديدًا من تلك اليد التي تكتب وتُملي وتُعدّل وتمنح الشرعية أو تحجبها؛ حين يصبح الداخل هو مركز الثقل، والدولة هي صاحبة الكلمة الأولى والأخيرة؛ حين تُكسر دائرة الخوف من الموقف الأميركي قبل الخوف من غضب الشعب… يومها فقط يمكن أن يقف الإنسان أمام العلم ويشعر أنّه جزء من وطن، لا مشهد من مسرحية طويلة.
عندها فقط يصبح 22 تشرين قيمة، لا مجرّد تاريخ.
دلال موسى
المقال يعبر عن رأي الكاتب وليس رأي الموقع، شكرا على المتابعة.