اخبار ومتفرقات

من الانزياح الميداني إلى إعادة تشكيل التوازنات الدولية

أكرم بزي

تشير التطورات السياسية والعسكرية في الأسابيع الأخيرة إلى انتقال الحرب الروسية – الأوكرانية إلى مرحلة إعادة هندسة للنظام الأمني الأوروبي، بفعل الضغوط الأمريكية المتزايدة لفرض تسوية على كييف، وتسارع التحولات الميدانية التي تضع أوكرانيا في وضع دفاعي صعب، مقابل تقدم روسي محسوب.

التحولات الجارية لا تعكس فقط تغيّرًا في موازين القوى على الأرض، بل تُظهر أيضًا تراجع قدرة الغرب على الاستمرار في إدارة الصراع بالوتيرة السابقة، في ظل تحديات داخلية واقتصادية وسياسية متنامية.

الإطار السياسي للتسوية المقترحة

كشفت مصادر أمريكية وأوروبية عن مسودة اتفاق سلام من 28 بندًا، يجري دفع أوكرانيا باتجاه قبولها، وتتضمن عناصر تشكل عمليًا إعادة ضبط للعلاقة بين موسكو والغرب على أسس جديدة.

من أبرز سمات هذا الإطار:

تنازلات أوكرانية واسعة

اعتراف رسمي بالسيادة الروسية على القرم ودونباس.

انسحاب أوكراني من أجزاء حساسة من خيرسون وزابوروجيا.

تعديل دستوري يمنع الانضمام إلى الناتو ويحدد سقف القوة العسكرية.

هذه البنود تشير إلى تحوّل جوهري في مفهوم السيادة الأوكرانية كما تشكّل بعد 1991.

عوائد استراتيجية لروسيا

العودة إلى مجموعة الثمانية (G8).

إدماج تدريجي في الاقتصاد العالمي.

مشاركة في صندوق إعادة إعمار تموّله جزئيًا الأصول الروسية المجمّدة، ما يعني تحويل آليات العقوبات إلى أدوات تعاون اقتصادي.

الدلالات الاستراتيجية للحراك الأمريكي

التحرك الأمريكي يوحي بوجود إعادة تقييم شاملة لطبيعة الحرب وأهدافها الواقعية.

من أهم المؤشرات:

تراجع الجدوى الاستراتيجية من استمرار الدعم غير المحدود لأوكرانيا.

خشية واشنطن من انهيار مفاجئ في الجبهة الأوكرانية قد يفرض وقائع أكثر صعوبة من التسوية الحالية.

سعي الولايات المتحدة لنقل مواردها وتركيزها تدريجيًا نحو شرق آسيا للتعامل مع صعود الصين.

هذا التحول يعكس إدراكًا أمريكيًا بأن الصراع في أوكرانيا يجب ألا يتحول إلى استنزاف طويل يعوق القدرة الأمريكية على إدارة منافسات كبرى في مسارح أخرى.

المشهد الميداني: تحولات القوة على الأرض

تعاني القوات الأوكرانية من تدهور حاد في القدرات العسكرية واللوجستية:

فشل الهجوم المضاد 2023.

نقص شديد في الذخيرة والقوى البشرية.

انهيار خطوط دفاعية في أكثر من محور.

اعتماد متزايد على دعم غربي يتباطأ سياسياً وماليًا.

في المقابل، تنجح روسيا في:

توسيع نطاق سيطرتها في دونيتسك وزابوروجيا وخاركيف.

الحفاظ على زخم عملياتي واضح دون خسائر استراتيجية كبيرة.

تعزيز قدراتها الصناعية العسكرية، وربط الجبهة العسكرية بمكاسب سياسية واقتصادية.

هذه المؤشرات تشير إلى أن المعادلة الميدانية أصبحت تميل بوضوح لصالح موسكو، ما دفع واشنطن إلى تسريع مسار التسوية.

الانعكاسات الأوروبية: مأزق بين الأمن والاقتصاد

تواجه أوروبا وضعًا مركبًا يتميز بـ:

ارتفاع غير مسبوق في تكاليف الطاقة.

تباطؤ اقتصادي واسع وصعود اليمين الشعبوي.

هشاشة قدرات الردع العسكري مقارنةً بروسيا.

مخاوف متزايدة من امتداد الحرب إلى حدودها الشرقية.

تدرك العواصم الأوروبية أن استمرار الحرب لفترة أطول قد يرفع حجم المخاطر إلى مستويات تهدد الاستقرار السياسي الداخلي وربما وحدة الموقف الأوروبي نفسه.

الأبعاد الجيوسياسية العالمية: انعكاسات على شرق آسيا

يحمل الاتفاق المقترح رسالة استراتيجية واضحة إلى المجتمع الدولي:

القوى النووية يمكنها، في سياق صراع إقليمي، فرض وقائع جديدة على الأرض دون أن تتمكن القوى الغربية من عكس هذه الوقائع.

هذا الاستنتاج يلقى صدى خاصًا في بكين، حيث:

تتزايد التوقعات بشأن استعدادات صينية للتصعيد حول تايوان.

تعلن اليابان نيتها تعزيز قدراتها الدفاعية لأول مرة منذ عقود.

تتخذ الولايات المتحدة خطوات لتقوية الردع في المحيطَين الهندي والهادئ.

وبذلك يصبح الملف الأوكراني جزءًا من بنية استراتيجية أوسع تشمل الصراع على شكل النظام الدولي القادم.

خلاصة تحليلية

المرحلة الراهنة تمثل نقطة انعطاف في مسار الحرب.

فالمسار السياسي الجديد ليس نتيجة اتفاق متكافئ، بل هو نتاج تحوّل في توازن القوى العسكري والسياسي، وتغير في أولويات القوى الكبرى.

يمكن تلخيص المشهد الاستراتيجي في ثلاث نقاط مركزية:

روسيا نجحت في تثبيت مكاسبها الميدانية وتحويلها إلى واقع سياسي.

أوكرانيا تواجه اختبار وجودي، بين استمرار الصمود أو قبول تسوية تنتقص من سيادتها.

الولايات المتحدة تعيد توزيع مواردها الاستراتيجية استعدادًا لمواجهة كبرى محتملة مع الصين.

الأسابيع المقبلة ستحدد ما إذا كان هذا المسار سينتهي بوقف شامل لإطلاق النار، أو سيفتح الباب أمام صراع جيوسياسي جديد بثوب مختلف.

المقال يعبر عن رأي الكاتب وليس رأي الموقع، شكرا على المتابعة. 

زر الذهاب إلى الأعلى