اخبار ومتفرقات

من الطبيعي أن تقصف إسرائيل حيث تريد… لكن “لا حرب”

لا يزال من غير المفهوم، حتى هذه اللحظة، مصدر هذا الهلع الذي يسري بين بعض أبناء البيئة الشيعية حول ما يُشاع عن “الحرب الكبرى”. ولستُ أدري من أي وحيٍ يتغذّى هذا التهويل: أهو وحيُ شيطانٍ مريد، أم شطحاتُ شاعرٍ مجنون؟

أتفهّم تماماً أن يقرع خصوم “حزب الله” طبول الحرب صباحاً ومساءً، وأن تلاقيهم في ذلك أصوات غربية وأميركية ترى في التلويح بالحرب مادة دسمة للضغط السياسي. فهذا في عرف الصراع أمرٌ طبيعي. والطبيعي أيضاً أن يكرّروا لازمتهم المعهودة: “غداً الحرب”، وكأنها الفرصة الذهبية التي ينتظرونها لاستدراج الحزب إلى انزلاقات أو أخطاء تفتح الباب أمام مواجهة لا يريدها أحد.

لكن، وبالعودة إلى الوقائع، فقد صدقتُ معكم أكثر من كل الذين روجوا لـ “حرب الغد”، وتحديداً حين قلت في 13 أيلول 2025، وسأعيدها اليوم بملء الفم: لا حرب… لا حرب… لا حرب.
لا حرب، ليس لأنّ إسرائيل انتصرت وحزب الله هُزم، ولا العكس.
بل لا حرب لأنّ لبنان دخل في صلب معادلة جديدة هي “معادلة اللاحرب”. ففي أعراف السياسة الدولية اليوم، حتى لو اجتاحت إسرائيل لبنان من جنوبه إلى شماله، فلن تجد دولة واحدة تصفق لها أو تمنحها صك “الانتصار”. على العكس، لن يُنظر إليها إلا ككيان ارتكب إبادة جماعية جديدة بحق شعبٍ وافق أصلاً على وقف إطلاق النار.

ولهذا السبب تحديداً، لا تستطيع الإدارة الأميركية تغطية حرب شاملة ضد الشيعة في لبنان؛ لأنّ مشاركتها ستُعدّ ـ في ميزان السياسة الدولية ـ “خطيئة كبرى” لا مجرد مغامرة عسكرية. ومن هذا المنطلق جاء كلام إيهود باراك، وتقاطعت معه إشارات مورغان أورتيغاس حين قالت: “نحن خلف الحكومة اللبنانية”. ومفاد هذه الرسائل أن مشكلة السلاح لم تعد مشكلة إسرائيلية أو أميركية فحسب، بل هي مشكلة الدولة اللبنانية نفسها.

وعليه، يتكثّف الضغط اليوم لإحداث “انفجار داخلي”، يُدفع عبره اللبنانيون إلى طلب التدخل الدولي “لإنقاذهم من فريق لبناني آخر”. وفي هذا السياق، انتهت الحرب الإسرائيلية بمفهومها الكلاسيكي، لتبدأ حرب استثمار الأخطاء؛ إذ تحرص الدول المعادية لمحور المقاومة على إحصاء الهفوات السياسية والإعلامية لإعادة إنتاج مفاهيم الحرب. ومن هنا، تسعى إسرائيل وحلفاؤها لتضخيم كل خطاب تهديد يصدر عن البيئة الشيعية، لأنه يتحوّل ـ في بازار السياسة الدولية ـ إلى الوقود الوحيد الذي يُنعش “الانتصار السياسي” الذي تبحث عنه تل أبيب.

لماذا لا حرب؟ لأن الأولويات الإقليمية تغيرت:
أولاً، لأن غزّة هي “الجبهة الأصل”، وهي الصراع المفتوح الذي يرسم خريطة المنطقة.
ثانياً، لأن المشروع الأميركي الإسرائيلي يركز حالياً على تقويض “الإسلام التركي” وضرب “الإخوان المسلمين”. وحين يتم تضييق الخناق على هؤلاء، ستكون وجهتهم إما سوريا أو لبنان. واليوم، تبدو سوريا الأولوية بوصفها “المحرقة” التي سيُجمع فيها المتشددون، خاصة بعد إعلان “حكومة الشرع” دخولهما بتحالف مع الأميركيين في القضاء على الاسلام المتشدد ونها داعش
.
ثالثاً، حتى الحرب المباشرة على إيران طُويت صفحاتها، فالبوصلة الأميركية عادت لتتجه نحو أفغانستان، ولولا ان باكستان، هي قررت ان تخوض الأخيرة الحرب بالوكالة عن امريكا لكانت امريكا هناك تضرب هناك.
أضف إلى ذلك حقيقة عسكرية مؤلمة: كل الترسانات التي تراهن عليها دول المحور الشرقي، من أسلحة “الدب الروسي” إلى ما يمكن تسميته مجازاً بأسلحة “الباندا الصينية” وغيرها، أثبتت أنها أقل فاعلية أمام التفوق التكنولوجي الأميركي المدعوم بالذكاء الاصطناعي، الذي حسم معارك في أيام معدودة. واليوم، مشكلة أميركا هي “كيف ترتب العالم”، بينما مشكلة إسرائيل “كيف ترتب العالم العربي”.
إذن: لا حرب، ببساطة.

حتى إسرائيل – التي تقصف حيث تشاء – فقدت بوصلتها. ماذا جنت من احتلال نقاط حدودية لبنانية؟ وماذا يعني التحليق اليومي أو الضربات المتفرقة؟ الجميع يعلم أن إسرائيل تتقن القتل والتدمير، لكن هذا بات “موضة قديمة”. السؤال اليوم ليس: هل تستطيع إسرائيل التدمير؟ بل: هل تستطيع أن تتوقف قبل أن تدمّر نفسها عالميا؟

الإسرائيليون، وخصوصاً النخب الليبرالية، سئموا الحرب. لم يهاجروا إلى “أرض الميعاد كما يزعمون” ليعيشوا في صقيع القلق والاضطراب النفسي. إسرائيل بحاجة إلى سلام ما، أو هدنة طويلة، لا إلى مزيد من الانغماس في النيران. أما القصف المتقطع والاغتيالات، فهي مجرد استثمار في “بنك الأهداف” ليس في لبنان فقط بل في المنطقة، فاما ان تقصفه اسرائيل او يقصفه طيران عسكري مجهول كما حصل بالامس في ادلب، هذا القصف سيستمر طالما أنه غير مكلف، ولن يتوقف إلا بتسوية كبرى أو بارتفاع الكلفة السياسية على تل أبيب.

ما الحل؟
لنفترض أن الحزب رفع سقف التهديد، واندسّ “طابور سادس” وأطلق صاروخاً يتيماً، ستتخذه إسرائيل ذريعة فورية. ولنفترض أن مجهولاً ضرب مصالح إسرائيلية، ستُوجّه أصابع الاتهام فوراً للضحية. حتى لو أمطر الحزبُ إسرائيل بالصواريخ والطائرات المسيرة، سنعود للمشهد ذاته: دمار هائل، ومهرجون على الفضائيات، وبيئة تدفع الثمن وحدها.

الحل ليس بالمواجهة العسكرية المفتوحة، ولا بالصمت القاتل، ولا بالخطابات العنترية.

إن أصعب الاشتباكات اليوم هي “الاشتباكات السياسية” حين تُدار بالعقل لا بالعصبية.

ومنذ اللحظة الأولى، كنت أدرك أننا سنصل إلى هذا الانسداد الذي لا مخرج له إلا بمبادرة شجاعة:
أن يبادر الثنائي الشيعي إلى تشكيل “رابطة فكرية – سياسية” (على غرار الرابطة المارونية)، تجمع نخباً حقيقية، لا أصحاب الحناجر العالية، بل أصحاب الفكر الراجح. نخب قادرة على إنتاج رؤى تحفظ مكاسب الطائفة وتحمي لبنان، وتبني مخرجاً سياسياً يقي الجميع ثمن الانتحار.
من دون ذلك، سنعيش ما هو أصعب من الحرب: سنعيش “قلق الحرب” الدائم، وسنخسر بالتدريج كل ما بُني خلال أربعة عقود من التضحيات.
الجواب اليوم على كل الاسئلة هو الدولة عليها حماية شعبها.

المقال يعبر عن رأي الكاتب وليس رأي الموقع، شكرا على المتابعة. 

 

زر الذهاب إلى الأعلى