
بقلم: لبنى عويضة…
خاص: جريدة الرقيب الالكترونية
هل راودك يومًا أن تطلب معلومة من إدارة عامة، أو أن تختبر قدرتك على النفاذ إلى حقّك الطبيعي في المعرفة؟
هل فكّرت يومًا أن تكون عنصرًا فاعلًا في كشف عملية فساد، بدل الاكتفاء بالانكفاء أمام مشاهد الانهيار؟
وهل خطر لك أن تتحوّل من ضحية للنظام المعطوب، إلى شريكٍ في تفكيكه ومحاسبة القائمين عليه؟
الحقيقة أنّ مكافحة الفساد ليست امتيازًا حصريًّا للدولة، بل تبدأ من المواطن… من سؤاله، من مطالبته، من تمتّعه بوعي قانوني يحوّل المعلومة من “منّة” إلى حقّ أساس.
بهذا المعنى، انعقد المؤتمر السنوي الرابع لـ جمعية الشفافية الدولية – لبنان (لا فساد) في بيروت، برعاية وحضور وزير العدل القاضي عادل نصّار، على مدى يومين حافلين بالنقاشات والحوارات. وغصّت القاعة بوجوه سياسية، أكاديمية، إعلامية، حقوقية، إضافةً إلى رؤساء بلديات وممثلين عن الوزارات والمجتمع المدني.
وتوزّعت الجلسات على محاور محورية أبرزها: استقلالية القضاء، مكافحة الإثراء غير المشروع، حماية كاشفي الفساد، والحق في الوصول إلى المعلومات، تزامنًا مع اليوم العالمي لمكافحة الفساد.
وفي بلد تُمأسس فيه الفوضى، ويتحوّل الفساد إلى بنية قائمة بذاتها داخل المؤسسات والقطاعات، برزت الحاجة إلى أداة تُعيد بعض التوازن إلى علاقة المواطن بدولته.
وهكذا وُلد عام 2017 قانون حق الوصول إلى المعلومات؛ ليس كترف تشريعي، بل كضرورة وجودية لضبط الفوضى ووضع حدّ لاحتكار الدولة للمعرفة التي هي حقّ شعبي أصيل.
في كلمته، أكّد القاضي عادل نصّار تمسّكه بحرية التعبير، معتبرًا أنّ القضاء في لبنان يُعامل وكأنه الجهة الوحيدة القادرة على حلّ مشكلات البلاد، فيما تُعفى المؤسسات الأخرى من مسؤولياتها.
وأشار إلى تراكم الأزمات التي انعكست على أداء القضاء، من تعطيل التشكيلات القضائية بفعل التدخلات السياسية، إلى الشحّ في الموارد البشرية والمادية.
ورغم ذلك، تُستثمر القدرات المتاحة إلى أقصى الحدود. والمفارقة الصارخة أنّ القضاء يُعدّ ثاني مصدر دخل للدولة بعد الجمارك، ورغم أهميته القصوى، لا تُخصّص له موازنة تُتيح له النهوض بدوره.
في السياق نفسه، استعرض رؤساء البلديات وأعضاؤها تجربتهم في تطبيق القانون، حيث برزت محاولات فعلية لتعزيز الشفافية، وتقريب المسافة مع المواطنين، وتقديم نموذج حكم محلي أكثر انفتاحًا.
لكنّ البيروقراطية تبقى الجدار الأكثر صلابة أمام الوصول إلى المعلومات، خصوصًا في الإدارات التي تشكّل نقطة تماس يومية مع الناس.
المؤتمر توقّف عند مفهوم كاشف الفساد، الذي قد يكون شاهدًا مباشرًا أو فردًا تعرّض لاستغلال مكشوف.
ودارت نقاشات حول ضرورة تكامل الأدوار بين الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، والمجتمع المدني، والإدارات العامة، والقطاع الخاص، لضمان حماية حقيقية لمن يقرّر مواجهة البنية الفاسدة بدل الانضواء تحتها.
أما أحد المحاور البارزة كان التأكيد على “النشر الحكمي” كواجب يُلزم الإدارات العامة بإتاحة المعلومات التي تهمّ المواطنين دون انتظار طلب رسمي.
هذه الممارسة لا تُخفّف العبء عن الناس فقط، بل تُخفّف كذلك الضغط عن الإدارة نفسها، وتُعيد تعريف العلاقة بين الطرفين على أساس الحق لا الاستجداء.
لعل المشكلة البنيوية في لبنان لا تقتصر على الفساد، بل تتمحور حول انعدام الثقة.
الدولة تتعامل مع المعلومة باعتبارها ملكًا خاصًا، بينما هي في الحقيقة ملكٌ عام، والقاعدة القانونية واضحة:
الإفصاح هو الأصل، والسرية هي الاستثناء.
إلا أنّ الممارسة السائدة تعكس منظورًا مقلوبًا فتكون السرية هي القاعدة، والإفصاح هو المغامرة.
ولبناء شفافية مستدامة، لا بدّ من الارتكاز على مثلّث متين: القضاء، المجتمع المدني، والإعلام،
إلى جانب خطوة لا يمكن تأجيلها وهي المكننة، بما فيها من مدخل تنظيمي حديث يضمن تدفّق المعلومة ويقطع الطريق أمام التلاعب والتضليل.
في المحصّلة، معركة مكافحة الفساد لا تُخاض في القاعات المغلقة وحدها، ولا تُدار من فوق. هي معركة وعي قبل أن تكون معركة قوانين.
حين يطالب المواطن بحقه، حين يكسر حاجز الصمت، حين يرفض التسليم بمنطق “هذا ما كُتب لنا”… يصبح شريكًا لا متلقّيًا.
وحين يصبح المواطن شريكًا، تُضطر الدولة إلى إعادة تعريف نفسها لا كسلطة تحتكر المعلومة، بل كمنظومة تُحاسَب، وتُسائل، وتُجبر على أن تكون شفافة.
فإذا كان الفساد بنية، فإنّ الشفافية فعل مقاومة يبدأ من فرد واحد، ويتحوّل إلى قوة لا يمكن لأي منظومة أن تواجهها.