
بقلم: ناجي علي أمهز
يعاني الواقع السياسي للطائفة الشيعية في لبنان من خلل بنيوي، تفاقم بفعل الفوضى الإعلامية والسياسية التي صوّرت الشيعة وكأنهم فقدوا اتزانهم الاستراتيجي، وباتوا يشكلون خطراً داهماً على المنطقة، لا سيما بعد انخراطهم في “إسناد غزة”. ورغم تأكيدات “حزب الله” المستمرة على انضباطية هذا الدعم وحصره داخل الأراضي اللبنانية، إلا أن “التيارات الشعبوية” (أو ما يمكن تسميته بقوى الصف الثاني) في إسرائيل والغرب، وحتى في عالمنا العربي ولبنان، تمتلك أجندات مغايرة تماماً للقرار الدولي العميق.
هذه التيارات، التي تحصر اللعبة الدولية في أنماط ضيقة، تتجاهل الخطر الأكبر الذي يرصده “صانع القرار العالمي”، والمتمثل في وجود أكثر من عشرين مليون “تكفيري” موزعين في العالم العربي، إضافة إلى عشرات الآلاف في أوروبا وأفريقيا وحتى أمريكا؛ وهؤلاء يشكلون قنبلة موقوتة تهدد الاستقرار في الغرب قبل الشرق الأوسط.
لقد جاء “طوفان الأقصى” في توقيت ولحظة خاطئين وفق كافة المقاييس، مانحاً حكام إسرائيل الجدد فرصة لتسويق نظريتهم القائلة بقدرتهم على مواجهة “الإخوان المسلمين” والتكفيريين منفردين، معتبرين أن الدور الوظيفي للشيعة قد انتهى. وقد استند اللوبي الإسرائيلي في ذلك إلى حدوث “الطوفان” دون علم مسبق من إيران أو الحزب، ما استُثمر للترويج لفكرة “ترهل” الثورة الإسلامية ومحورها، وهو استنتاج عززته سنوات من التصريحات الإعلامية والسياسية غير الموفقة.
بناءً على ذلك، رأت إسرائيل فرصتها الذهبية للإيحاء للنظام العالمي بأن إيران قد تنزلق إلى الفوضى بسبب ترهل الحكم فيها، مما يوفر للتكفيريين أرضاً خصبة وممراً آمناً من أفغانستان وباكستان إلى العالم العربي ومنه إلى العالم. وعليه، سوّقت تل أبيب لضرورة شن حرب كبرى لقلب نظام الحكم في طهران، وإنشاء نظام جديد يعيد إيران إلى “الحظيرة الأمريكية” كحليف (على غرار حقبة الشاه).
في هذا السيناريو، لا تمانع واشنطن وتل أبيب من امتلاك “إيران الحليفة” للطاقة النووية، أو حتى إعادة بناء تجمعات شيعية جديدة، طالما أنها تدور في الفلك الأمريكي-الإسرائيلي، لتبدأ بعدها “الحرب الكبرى على الإرهاب” المتوقع نهايتها عام 2030.
وفي المشهد السوري، يأتي وصول أحمد الشرع إلى الحكم، وسقوط النظام السابق، كمحاولة لتطبيق هذا السيناريو، ولإثبات أن إسرائيل قادرة على التعايش مع التيارات المتشددة وضبطها. وما المشاهد التي يبثها الإعلام الإسرائيلي لجنوده وهم يتجولون بحرية في سوريا أمام عناصر تكفيرية إلا محاولة لتثبيت نظرية أن “التكفيريين لا يشكلون تهديداً وجودياً لإسرائيل”. وهذا صحيح جزئياً؛ فإسرائيل قد تحمي نفسها منهم، لكنها حتماً عاجزة عن حماية العالم.
ما حدث في سوريا من مجازر مروعة ضد الدروز والعلويين، واجتياح المناطق كالجراد، أعاد تفعيل جرس الإنذار الدولي: الخطر الحقيقي لا يكمن في الشيعة (وإن كانوا “مزعجين” في السياسة)، بل في هذا الفكر الإرهابي الإلغائي الذي يمكن أن يحيل دولاً مستقرة -حتى تلك الخليجية الساعية للانفتاح والخروج من العباءة الدينية- إلى ركام في لحظة غفلة، كما أنه قادر على ضرب العمق الإيراني نفسه.
حتى “الشرع”، المنشق أصلاً عن هذه البيئة، وجد نفسه مهدداً بالتصفية من قبل جنوده المتشددين، ما جعل أولويته اليوم التخلص منهم لبناء دولة قابلة للحياة، أقله كما يتصورها هو.
ثم جاءت الهجمات الإرهابية ضد الأمريكيين في تدمر، والعملية الأخيرة في أستراليا، لتثبت فشل الرهان على قدرة إسرائيل وحدها في ضبط الإيقاع. فالعالم أدرك أنه لا مكان آمن، وأن فرداً واحداً قادر على إدخال قارة بأكملها في حالة من الفوضى.
وهنا تبرز المقارنة الجوهرية: الشيعة مقاتلون أشداء، لكنهم ليسوا متشددين أو تكفيريين؛ وتاريخهم في التعايش عالمياً يشهد بذلك. مشكلتهم في العالم الإسلامي تشبه مشكلة الأقليات الأخرى: هم “مُكَفَّرون” ومستهدفون، بينما في البعد الإنساني هم الأقرب والأفضل للتعايش، ولعل وصول عمدة نيويورك “زهران ممداني” كان حجر الزاوية الذي يثبت إمكانية الدور الشيعي العالمي المندمج.
من هنا، نفهم بوضوح تصريحات توم باراك حول “ليس المطلوب نزع السلاح”، وحديث السفير الأمريكي في لبنان عن “احتواء السلاح” يعني المطلوب هو تحديد عمل هذا السلاح.
والأهم، تصريح الرئيس ترامب الأخير بأن “حزب الله يمثل مشكلة”. في القاموس السياسي لترامب، وصف “مشكلة” يعني أنه طرف “مزعج” يمكن التعامل معه سياسياً، وليس “تهديداً وجودياً” يجب محوه، وهذا فرق جوهري.
هذا التحليل يعيد الاعتبار لدور الأقليات في حماية شواطئ المتوسط ومنع تدفق الإرهاب نحو أوروبا. العالم بحاجة للعلويين لضبط الساحل السوري، وللمسيحيين والشيعة لضبط الشواطئ اللبنانية، فغيابهم يعني تحول قبرص وأوروبا إلى ساحة مستباحة للإرهابيين خلال ساعات قليلة.
ختاماً، عندما أراجع كيف يستخدم قادة أمريكا اليوم نفس التعابير والمصطلحات، وحتى تراكيب الجمل التي نشرتها قبل أشهر -تحديداً القول بأنه “ليس المطلوب نزع السلاح” وأن “الشيعة أصبحوا مزعجين”- أشعر وكأنه لا يوجد توصيف أدق مما كتبت.
وهنا أتساءل عن أداء إعلام “محور المقاومة”: هل كان يعمل بخبث مدروس لتأليب العالم على الشيعة وتحويلهم إلى “بيئة مزعجة” تنشغل بهم امريكا واسرائيل، مما يمنح فرصة اكبر للاخوان المسلمين تحت شعار كل الدماء ترخص لفلسطين حتى لو ضحينا بالشيعة، ام ان الامر هو مجرد محاولة لتحقيق أفكار واحلام قومية عربية ويسارية، أم كان يتصرف بغباء فاقع؟ في كلتا الحالتين، النتيجة واحدة.
كلام ترامب واضح، والمهلة قصيرة (نصف عام) ليفهم العالم ماذا نريد.
هل سنبقى أسرى ضجيج القوميات العربية وشعارات اليسار الغوغائي، التي اندثرت في أوطانها، ومحاولات “التذاكي” لضم تيارات إسلامية كالإخوان المسلمين إلينا بينما مشروعهم أكبر من الشيعة ومن العالم ويمتد من أفغانستان إلى فلسطين (وهذا حقهم)؟
أم سننغلق على أنفسنا كباقي الأقليات لنحدد دورنا بوضوح؟
هذا ما ينتظر العالم أن يسمعه منا، والأمر متروك للشيعة أصحاب القرار.