
عدد الشيعة في جبيل وكسروان لا يتجاوز 6.4٪ من أبناء المنطقة، ومن بين هذا العدد، لا يتخطى المشتغلون بالدين والثقافة والسياسة المئة شخص في أفضل الأحوال، أما المؤثرون فعليًّا من بين هؤلاء في الأوساط الكنسية والحزبية والنخب المارونية، فلا يتجاوزون الأربعين.
ورغم هذا التمثيل الضئيل عدديًّا، وخلال خمس سنوات فقط، نجح شيعة جبيل وكسروان، وفي ظروف مصيرية وحساسة، في تفعيل الحوار وتعزيز الثقافة وإبراز التعايش، مما ترك أثرًا إيجابيًّا كبيرًا على صورة الشيعة في كل لبنان، لا بل في وجدان الآخر.
هنا، ظهر الشيعي لا كرقم أو حالة اقلية، بل كقيمة معرفية، وشريك في النهوض والتفاعل، خلافًا لما كان سائدًا قبل سنوات من قِبَل الأكثرية المسيحية في جبيل وكسروان، التي قاطعت الشيعة نتيجة مواقف سياسية سابقة.
الفضل في هذا الإنجاز ليس للشيعة وحدهم، بل أيضًا للكنيسة التي تمارس احتضانًا عابرًا للسياسة، يكاد يكون بمثابة معجزة روحية في زمن الانقسام والتَّشظّي، إذ تجتهد مع نخب مسيحية، وبكل صدق، لتعميق الحوار والتكامل في وطن بات يُختصر بشاشات الصراع وإعلام التحريض.
لو أن هذا الحراك الشيعي في جبيل وكسروان بدأ قبل عشرين عامًا، لما كنا بحاجة إلى تحالفات مسيحية متناقضة، أو مضطرين لمقاطعة طرف مسيحي كُرمى للآخر.
ففي النهاية، كما قال لي أحد كبار رجال الكنيسة المارونية:
“يا ابني، إذا خيّك بيتدخل وبيمَيِّز ولد من أولادك على التاني، أنت ما بتقبل.”
بالأمس، شاهدنا النائب عن حزب الله رائد برو يصافح النائب السابق فارس سعيد، وتبادلا الحديث والابتسامات.
فهل يعني ذلك أن النائب برو انضم إلى الدكتور سعيد، أو أن فارس سعيد أصبح شيعيًّا؟
بالتأكيد لا، فالمسألة ليست تنازلًا أو اصطفافًا، بل تعبيرٌ عن وعيٍ لحاجة لبنان إلى لغة جديدة، ترفض التشنّج وتبحث عن مساحة لقاء. وهذا التصرف ينطبق على كافة المكونات السياسية والثقافية والنخبوية.
نحن، بكل بساطة، بحاجة إلى حوار.
الحوار ليس ترفًا بل ضرورة وجودية، لأن زمن الانغلاق والعزل يدمّر كما حصل عام 1975. وحجم التحديات يتطلب انفتاحًا، لا لأن أيَّ طرف ضعيف، بل لأننا أقوياء بالعيش المشترك ومحكومين بالحفاظ على الوطن، وبفهمنا لواقعنا وإصرارنا على التواصل واللقاء وأن نُكمّل بعضنا البعض، بعيدًا عن القطيعة والبغض.
فلنكن واقعيين:
اليمين المسيحي لم يكن يومًا من مناصري القضية الفلسطينية، حتى قبل نشوء حزب الله والمقاومة.
اليوم، غالبية العرب لا تعنيهم فلسطين، و90٪ من دول العالم كذلك.
الثنائي الشيعي، بما أنه يعتنق القضية الفلسطينية وملتزم بها، يتحتم عليه العمل الدؤوب لإيجاد مساحة مشتركة وتفعيل الحوار. أما في القرارات والاتفاقات، فالأمور رهن متغيرات دولية وصراعات كبرى بالمنطقة.
الحراك الشيعي في جبيل وكسروان أثبت أن الانقسام بين الشيعة وغيرهم ليس على الهوية والانتماء للوطن، بل على الخيارات، ومنها القضية الفلسطينية. فمن يريد أن يقنع الآخر في الداخل اللبناني، فإن الأمر يكون بالحوار العميق والهادئ.
لذلك، فإن توقف الحوار لا يخدم اللبنانيين، كما لا يخدم القضية الفلسطينية، لا سيما أن الشيعة قدموا أكثر مما يمكن تصوره في سبيلها، وشاهدنا كيف تعاملت غالبية العرب والمسلمين مع هذه التضحيات الشيعية.
اضافة ان عدم الحوار يُدخلنا في خصومة جديدة أوسع مع الداخل اللبناني، والشيعة في غنى عنها.
يكفينا تهديدًا من المتطرفين على الحدود السورية، الذين يُقسمون بالانتقام من الشيعة ويتوعدون القرى اللبنانية!
كما أن الإسرائيلي على حدودنا الجنوبية لم يتوقف عن الاعتداء والقتل منذ وقف إطلاق النار وحتى الآن؛ فقد قَتَلَ وجَرَحَ أكثر من 800 مواطن لبناني، 99 بالمائة منهم شيعة. كما أنه قصف غالبية البيوت الجاهزة التي تأوي أصحاب البيوت المدمرة في الجنوب.
اليوم، الشيعي ممنوع من دخول سوريا، وغدًا قد يُمنع من دخول الجنوب نفسه، إذ قد تقرر إسرائيل استهداف كل شاب شيعي دون تمييز. وهذا ما بدأ يحصل فعليًّا، حيث تم منذ قليل استهداف شاب على طريق الغازية.
أصلًا، من سيحاسب إسرائيل ويمنعها من الاستمرار بهذا النهج؟
إذا كانت تحرق الأطفال في غزة وهم أحياء، فهل ستتردد في حرق الشيعة وهم في عزلة وعداء مع الجميع؟
وإن كان لا بد من رفع الصوت، فيكفي تقديم الواقع كما هو لما يحصل مع الأقليات في المشرق العربي، إضافةً إلى ما تقوم به إسرائيل يوميًّا مع الشعب الفلسطيني الأعزل.
فالتشدد في المواقف، إن كان من هنا أو هناك، فإن الخاسر الأكبر هو لبنان.
وأسوأ ما في هذا الزمن أن يفقد الإنسان القدرة على الإصغاء إلى الآخر، بعيدًا عن مسألة من هو على حق.
الحوار بمحبة كبيرة، مع ما يتبعه من تواضع من قِبَل الجميع، يؤسس لما هو أفضل بكثير من عدم الحوار. صدقًا، أحيانًا كلمة صغيرة أو فعل بسيط “بصيح دينا كبيرا” لا يمكن سداده.
بالأمس، كنت أقدّم واجب العزاء بالراحل الكبير، الأبّاتي الإنساني أنطوان ضو، فاستقبلني بعض الآباء قائلين إن النائب العام للرهبانية الأنطونية المارونية، الأب بطرس عازار، اقتبس من كلمتي في تعزية الأب ضو خلال قداس الجناز.
وحين جلست إلى يساره، أخبرني بنفسه كيف أثّر فيه نص التعزية.
لم أعرف بماذا أجيب، إذ خانتني الكلمات أمام هذا الموقف النبيل…
تخيلوا الأب بطرس عازار، هذه الهامة الروحية الفكرية، النائب العام للرهبانية الأنطونية المارونية، يقتبس جملة واحدة من تعزية كتبتها في وداع الأبّاتي أنطوان ضو، فيعلنها، لأنه هكذا تعلم من دينه ومن كنيسته أن يشكر ويعطي بحب وعرفان وعلانية، لا في همسة عابرة، بل أمام الجميع.
لم يكن بحاجة أن يقول شيئًا، لكنه فعل. هذا القلب الذي يفيض تواضعًا، هذا الرجل الذي فرض عليه عمق إيمانه وسمو فكره أن يقول “شكرًا” عن اقتباس صغير…
هذا ليس تصرّفًا عابرًا، بل درسٌ حيّ في الأخلاق النبيلة، في التربية الرفيعة، في تلك العظمة التي تختبئ لا في المنابر، بل في التفاصيل.
هذا الدرس في التواضع، من الأب بطرس عازار، لم يكن لي وحدي…
بل لكل من يعرفه، ولكل من سمع عنه، لأنه يعلِّم من حوله أن يقولوا “شكرًا” حتى للابتسامة، حتى للمرور العابر، حتى للكلمة التي تسكن في الظلّ.
إنها الإنسانية والأخلاق…
وهكذا تنتصر القيم، بفعل بسيط، لكنه يشبه صلاة صامتة ومعجزة عظيمة في زمن الأنا.
هكذا تُبنى الأمم! بالمحبّة. بالعرفان. بالحوار.
الشيعة كما كانوا يحتاجون السلاح وبأس الشباب في تحرير الجنوب عام 2000، فإنهم اليوم بحاجة إلى حكمة الشيّاب وحماسة الشباب من أجل تفعيل الحوار حتى نصون لبنان، ونحمي ما تبقى من شراكة.
اليوم، الإصرار على الحوار مطلوب، وإن أُغلق في وجه الشيعة ألفُ باب، يجب الاستمرار وتكرار المحاولة. فالعائلة الواحدة، رغم الخلافات اليومية فيما بين أفرادها، إلا أنهم يحتاجون دائمًا للحوار لأنهم عائلة، والا بحال انقطع الحوار فان مصير العائلة التشتت، ونحن كذلك في لبنان عائلة واحدة.
الوحيد الذي يستفيد من انقسام اللبنانيين هم الأعداء. ولكي نقطع الطريق على الأعداء، يجب أن نعمل من أجل الحوار كما نعمل في الحياة من أجل البقاء على قيد الحياة.
فكلُّ واحدٍ منا يعالج قدر المستطاع جروحه، ويقوي روحه، ويطبب نفسه، ويجهد ليلًا ونهارًا في التعليم والاكتفاء وتطوير ذاته، ويفعل المستحيل ليعيش أطول فترة ممكنة بعافية. وهكذا يجب أن تكون الطوائف في الوطن؛ أن تفعل المستحيل وألا تبتر نفسها، وإلا فإن الموت سيصيب الوطن.
بقلم ناجي علي أمهز
المقال يعبر عن رأي الكاتب وليس رأي الموقع، شكرا على المتابعة.