اخبار ومتفرقات

هندسة القبول الجماهيري: الجولاني يقلّد الأسد فيصبح أحمد الشرع

تُعتبر التبدّلات السياسية التي تحدث في الدول حركة طبيعية للشعوب، من خلال الثورات أو الحركات الاجتماعية، وكذلك بالانتخاب السياسي الشعبي وخيارات الشعوب.

تتبدّل الوجوه والقادة والزعماء، كلٌّ انطلاقًا من قدرات ومقوّمات شخصية وفكرية وتآلفات واتحادات حزبية، وهذا أمر عادةً ما يكون طبيعيًا، ولا يحمل في طيّاته الكثير من التدقيق بسمات الشخصية لهؤلاء.

عادة ما تكون الوجوه الحاكمة الجديدة مألوفة مسبقًا ولها صورتها المعروفة والتي تبني على اساسها تقديم نفسها كبديل أو خلف لمن يسبقها ويكون اختيار الشعوب لها على أساسها كجزء من برنامج متكامل، أدركت الشعوب ذلك أم لم تدرك.

ولكن، وفي بعض التحوّلات الكبيرة أو الخاصة، تكون سمات الشخصية الفيزيولوجيا الجسمانية والسلوكية لبعض هؤلاء القادة محطَّ ملاحظة معمّقة عندما تكون هذه الوجوه في تبدّل سريع وتغيير للكثير من ارائها وسلوكياتها وحتى في حال وجود سمات جسمانية ملفتة ومميزة، وبالأخصّ عندما تكون هذه التحوّلات بارزة للعيان والملاحظين وليست وليدة الصدفة، بل ضمن عملية مدروسة بدقة، مرتبطة بظروف الواقع الثقافي والاجتماعي والنفسي للبلد المستهدف أو المدروس ولشعبه. وهذا ما تُظهره لنا في دراساتها بعض العلوم النفسية والاجتماعية والسياسية، ومنها علم النفس الاجتماعي وعلم النفس السياسي، واللذان يدرسان – فيما يدرسان – آليات تأثير كاريزما القيادة السياسية على الاتجاهات النفسية لدى الشعوب والجماهير، وعمليات الجذب المتبادل بين القائد والجمهور، وانعكاس السمات الشخصية لدى القائد أو الزعيم أو السياسي على مزاج الجمهور، والاستفادة القصوى من تلك السمات لتثبيت دعائم السلطة والحكم.

وليس بعيدًا عن هذا الموضوع، يأتي التحول السياسي التاريخي الذي حدث في سوريا مع صعود نجم الرئيس الجديد أحمد الشرع، الملقب سابقًا بأبي محمد الجولاني، حيث أطاحت هذه الحركة السياسية–العسكرية بمرحلة حكم سابقة تمثّلت في حقبة حكم آل الأسد، والتي بدأت مع الرئيس حافظ الأسد في 16 تشرين الثاني 1970، ودام حكمه حتى وفاته في 10 حزيران 2000، أي قرابة 29 عامًا. ثم استلم الحكم بعده الرئيس بشار الأسد، الذي استمر في السلطة حتى تاريخ سقوطه في 8 كانون الأول 2024، أي ما يقارب 24 عامًا من الحكم.

وصل أحمد الشرع، المعروف سابقًا بـ أبي محمد الجولاني، إلى سدّة الحكم بعدما أعلنت فصائل المعارضة، بما فيها هيئة تحرير الشام سيطرتها على العاصمة دمشق، ليبدأ فصل جديد في الحياة السياسية السورية مع صعود الرئيس الجديد.

وقد بات الاسم الأشهر المرتبط به سابقًا – أبو محمد الجولاني – يُستبدل تدريجيًا بالاسم الرسمي الجديد الرئيس أحمد الشرع.

في هذه المقالة، سنبتعد عن الجوانب السياسية المباشرة لهذا التحول، وبنظرة موضوعية علمية، سوف نركّز على الأبعاد النفسيّة الاجتماعية والنفسيّة السياسيّة، خصوصًا فيما يتعلّق بالتحوّلات في الصورة السيميائية والشخصية للرئيس الجديد ومقارنتها مع شخصية من قبله وهو الرئيس بشار الأسد.

كمقدمة في هذا السياق مراجعة تاريخية مقتضبة للاختلافات بين بشار الأسد ووالده حافظ الأسد، إذ حاول الابن أن يُقدّم نفسه بصورة “الإنسان المتواضع والهادئ”، الطبيب الودود الساعي للحلول الدبلوماسية، والذي يتودد إلى الشعب من خلال ممارسات يومية – كقيادته لسيارته بنفسه بين الناس، أو من خلال زيارات عائلية إلى بعض العوائل في القرى النائية برفقة أسرته. وقد سعى بذلك بحسب بعض الآراء إلى إعادة ترتيب صورته الإنسانية في نظر الشعب السوري، في محاولة لمحو الصورة الصارمة القاسية التي ارتبطت بشخصية والده. وربما نجح في ذلك في عدد من المواقف والمواضع.

ومع بروز أبي محمد الجولاني كرئيس جديد على الساحة السياسية في سوريا، يمكننا أيضًا أن نلاحظ عددًا من محاولات التغيير في الهوية البصرية والسلوكية لشخصيته دون أن نغفل عن ملاحظة سماته الجسمانية الطبيعية.

انتقل أبو محمد الجولاني من قائدٍ لجماعات جهادية تكفيرية اسلامية (بين مزدوجين) إلى رمز جديد للدولة المدنية السورية والتي تضمّ عددًا كبيرً من التنوًع الثقافي والسياسي والفكري ولا ننسى هنا أنّ عاصمة هذه الدولة هي من أقدم عواصم التاريخ وهذا ما يبرر هذا الكمّ الهائل من الطوائف والعادات والتقاليد والافكار والثقافات ودورها المحوري دائما في منطقة تشهد الصراعات منذ القدم وحتى يومنا هذا.

لقد تجلّت هذه التغييرات والتعديلات في صورة الرئيس الجديد الذي يقدّمها للظهور الاعلامي بدءًا من التخلّي التدريجي عن الاسم المستخدم ضمن الفصائل الجهدية التي قاتلت في عدة بلاد والتي كانت مرتبطة بعدة جبهات مثل القاعدة والنصرة وداعش وصولًا الى اللباس الجهادي التقليدي الذي كان يظهر به في مقابلات سابقة متلفزة مرتديًا ما يسمى العمامة الاسلامية، إلى نمط مظهري وسلوكي أكثر انسجامًا مع متطلبات الصورة الرسمية للدولة.

تحوّلت الصورة البصرية والهوية البصرية في شخصية أحمد الشرع بشكل لافت، من أسلوب الجهاديين في مظهرهم وكلامهم، إلى شخصية سياسية ذات طابع عصري ومدني. فقد بدأ يظهر مرتديًا البدلة الرسمية ويمارس اساليب الحياة المدنية كما تغيّر حتى لباسه العسكري ليصبح أقرب إلى ألوان الجيش العربي السوري أو اللباس العسكري غير الجهادي قبل مدة قصيرة من استلامه وخلال وجوده في ادلب.

مع مرور ما يقارب ثمانية أشهر على تسلمه الحكم، لوحظت الكثير من التبدلات السلوكية والعلامات البصرية في ممارساته، مظهره، ولغة جسده. غير أن هذه التبدّلات لم تكن بعيدة عمّا كان يظهر بها خصمه وعدوّه الأول سابقًا، بشار الأسد بل كانت مشابهة لها في عدة مناسبات ظهر فيها الشرع اعلاميًا بشكل متتالٍ.

فتحت هذه الملاحظة للتبدّلات السريعة في الصورة الشخصية الكاريزمية للشرع  الباب أمام السؤال الرئيسي: هل يشكل هذا التشابه الجسماني محض صدفة؟ وهل هذه التبدلات في السلوكيات الشخصية الاعلامية عشوائية؟ أم أن وراء كل ذلك أهدافًا وأبعادًا مستندة إلى نظريات نفسية–اجتماعية–سياسية؟

في الواقع، إن عملية التحوّل التي يقوم بها أحمد الشرع لا تبدو تلقائية أو عفوية، بل تُقارب من حيث المنهج عملية استراتيجية لصناعة الزعامة السياسية. وهي تقوم على توظيف الرؤية البصرية والسلوكية، مستفيدة من الذاكرة الواعية واللاوعية الشعبية السورية، الفردية والجمعية، التي ارتبطت لعقود بصورة الرئيس بشار الأسد ووالده من جوانب متعددة.

فالتصوّرات الذهنية عن بشار الأسد أو بيت الأسد في البعد الزمني – بغضّ النظر عمّا إذا كان محبوبًا أو مكروهًا – تُمثل المرجعية البصرية الجماعية للسوريين حول “الرئيس”. وقد أصبحت هذه الصورة نوعًا من الإطار المألوف، نتيجة لحكم طويل امتد منذ عام 2000، وسبقته أيضًا فترة حكم حافظ الأسد الممتدة منذ 1970، ما جعل حكم “بيت الأسد” أطول فترة حكم مستقر نسبيًا في بلدٍ عُرف سابقًا بكثرة الانقلابات.

في هذا السياق، يبدو أن أحمد الشرع يحاول إعادة إنتاج هذه المرجعية البصرية، عبر تقليد مظهر الأسد وسلوكياته العامة، وذلك بهدف خلق استمرارية شكلية تطمئن الجمهور وتحاكي الوعي واللاوعي الجمعي المرتبطة بصورة رئيس سوريا المرجع.

من اجل ايضاح الفكرة للقارئ، يمكننا طرح عدة امثلة عن مقصدنا في هذا الاطار:

فمن حيث التقارب والتشابه الجسماني نجد أنّ كِلا الشخصين اي بشار الاسد وأحمد الشرع يتمتعان بقامة طويلة نسبيًّا متقاربة من حيث الطول مستقيمة نحيفة شبابية  متوسطة عرض الاكتاف (صورة 1)، شكل الوجه عريض قليلا من الاعلى وانحف من الأسفل هادئ حازم لطيف غير مزعج بصريًّا، الأذنان بعيدتان قليلا عن الرأس ومسننتان من الأعلى وقريبتان اليه من الأسفل حجم الانف عرضيا من الأعلى متقارب . (صورة 2).

أمّا لغة الجسد فإنّنا نجد حركة يدين متقاربة أثناء المحادثة متفاعلة مع الموضوع والحديث (صورة 3) حركة الأرجل اثناء المشي متناسقة ثابتة مستقيمة متشابهة (صورة 4). نظرات مباشرة الى المتحدث او الجمهور مع مراعاة توزيع النظرات على الحضور في حال وجود عدة اشخاص او جمهور.

وأيضا تشابه واضح في طريقة السلام الودودة بكلتا اليدين في الاستقبالات او التوديع (صورة 5) ويد واحدة جانبية مع وقوف مواجه للكاميرا في الصور الرسمية مع الرؤوساء والوفود الرسمية (صورة 6).  الجلوس اثناء المحادثات الرسمية متشابهة ايضا بظرهر مستقيم بزاوية 90 درجة مع القدمين المستقيمتين مع الكرسي وثقة في الجلوس وندّية في المحادثة.

الصوت هادئ بنبرة مستقرة دون ذبذبات صوتية او تبدّلات نغمية، الكلام منطقي في الاقناع، محاورة غير مترددة في الاجابات.

 

الظهور الاعلامي المتشابه الى حدّ بعيد بين الشخصيتين وذلك بعد التغييرات في سلوك احمد الشرع لتقارب النموذج المرجع والهوايات التي كانت معروفة عند بشار الأسد وعلى سبيل المثال لا الحصر، قيادة السيارة بنفسه (الصورة 7) – زيارة العوائل السورية في المناطق الفقيرة – الصلاة جماعة خلف المفتي للدولة والجلوس بتواضع بين الصلاتين او قبلهما – ركوب الخيل والذي تُعرف به عائلة بيت الأسد الحاكمة والظهور الرياضي والمعروف أيضًا أنّه من هوايات بيت الأسد الحاكمة على مدى سنين طوال.

عُرضت هذه الصور وبعض مقاطع الفيديو بعد التحليل البشري على بعض برامج الذكاء الاصطناعي المدفوعة والتي أظهرت تقاربًا بمعدل عام يبلغ نحو 66% بين الشخصيتين، في الجوانب الفيزيولوجية، الصوتية، لغة الجسد، والسلوك الرمزي (صورة 8). وهي نسبة مرتفعة للغاية بالنظر إلى فترة حكم تقارب الثمانية أشهر فقط من تولّي أحمد الشرع منصب رئيس الجمهورية السورية.

تُطرح هنا أسئلة جوهرية أخرى مرتبطة بالموضوع، وهي:

اذا ما اعتبرنا انّ التشابه الجسماني مسألة مصدافة، فهل التشابه السلوكي والظهور الاعلامي المتقارب والهوايات المشتركة محض صدفة أيضًا أم أنّ جهة متخصصة ما بغض النظر عمّن هي وجّهت سلوك الرئيس الجديد لما يقوم به؟ وهل أنّ وراءها أي التغييرات المدروسة أهدافًا وأبعادًا مستندة إلى نظريات نفسية–اجتماعية–سياسية؟ وما هي هذه النظريات التي تبنّت الاشارة الى تعديل السلوك ليتشابه مع نموذج آخر يختلف كلّيًا معه من حيث الأهداف والعقائد السياسية والايديولوجية؟

في الواقع، إن عملية التحوّل التي يقوم بها أحمد الشرع لا تبدو تلقائية أو عفوية، بل تقوم على توظيف الهوية البصرية والسلوكية مستفيدة من الذاكرة الشعبية السورية الواعية واللاواعية، الفردية والجمعية، التي ارتبطت لعقود بصورة بشار الأسد…

في إطار تحليل هذه التبدّلات الشكلية والسلوكية، يمكن القول إن أحمد الشرع اعتمد على ما يمكن تسميته بـ “هندسة القبول الجماهيري”، وهي استراتيجية نفسية–اجتماعية تقوم على توظيف الصور، الرموز، والتمثلات البصرية والسلوكية المألوفة لدى الجمهور، لخلق حالة من الطمأنينة والقبول التدريجي.

يمكن تفسير هذه الظاهرة من قبل الرئيس الجديد لسوريا من خلال أربع نظريات رئيسية:

1. نظرية المرآة الاجتماعية (Social Mirroring):

مفهومٌ نفس-اجتماعي يشير إلى العملية التي يُشكّل بها الأفراد هويتهم الذاتية أو سلوكياتهم أو صورتهم العامة من خلال عكس أو تقليد سمات أو أفعال أو مظاهر الآخرين، وخاصةً أولئك الذين يتمتعون بسلطة رمزية أو نفوذ اجتماعي. تُشير النظرية إلى أن الذات تُبنى بناءً على نظرة الآخرين إلينا، وأن الأفراد غالبًا ما يتبنون سلوكياتٍ مُنعكسة لكسب القبول أو السلطة أو الشرعية في سياق اجتماعي مُحدد.

تقول للجمهور بشكل غير مباشر: “لست غريبًا، لقد رأيتُم مثلي من قبل”.

2.نظرية الرمزية في علم النفس السياسي (Symbolism in Political Psychology):

يستكشف علم الرمزية كيفية استخدام الرموز – البصرية والسلوكية واللغوية والمادية – لتمثيل الأفكار والقيم والسلطة والهوية في المجتمع. ويؤكد على أن التواصل والإدراك البشريين يتمان من خلال رموز مشتركة، مما يؤثر على الفهم الجماعي. وفي علم النفس السياسي، تساعد الرمزية في تفسير كيفية بناء القادة للشرعية والتأثير الوطني.

تقمّص الرموز البصرية التي جعلت الأسد مقبولًا، كالبدلة الرسمية، الوقار، الثبات، والظهور المتّزن.

3.نظرية تقديم الذات (Dramaturgical Theory – Goffman):

تُصوّر نظرية الدراماتورجيا لإرفينغ جوفمان التفاعل الاجتماعي كعرض مسرحي، يؤدي الأفراد أدوارًا بسلوكيات أمامية (علنية) وأخرى خلف الكواليس (خاصة). يُدير القادة الانطباعات من خلال صياغة الإعدادات والسيناريوهات والمظاهر لتعزيز الشرعية والسلطة.

يصوغ القادة صورة تمثيلية تتماشى مع توقعات الجماهير، لا حقيقتهم الذاتية.

4.سيكولوجية الجماهير (Gustave Le Bon):

تشرح النظرية لغوستاف لوبون كيف أنّ الجماهير تبحث عن الصورة لا عن الفكرة، وتخاف القطيعة مع ما اعتادت عليه.
من هنا نفهم أن القادة غالبًا ما يبنون صورهم الجديدة على صور زعماء سابقين مألوفين، سواء كانوا خصومًا أو شركاء، وذلك لتفادي صدمة التغيير الجذري المفاجئ الذي قد يثير القلق أو الرفض الشعبي.

بناء على ما تقدّم من تحليل ومقارنة بين الشخصيتين يتبين لنا أنّ التشابه الظاهر في السمات والظهور الاعلامي والسلوكيات المتقاربة وأساليب استخدام رمزية الهوية البصرية الشخصية ليست مسألة بريئة أو عفوية، وهي موجّهة نحو أهداف محددة ومدروسة.

ويمكن القول بأنّ تحليل سمات الشخصية لدى القادة والرؤوساء لا تهمّ الباحثين في الشأن السياسي فقط، بل أيضا الباحثين في علم الاجتماع وعلم النفس وعلم النفس الاجتماعي. وتعتبر أساليب استخدام الهوية البصرية لأحد المؤثّرين وتقليدها غير محصورة باستخدام  الرئيس الشرع لها، بل هي أساليب عالمية جغرافيا وتاريخيا بغية الاستفادة من البناء البصري والمرجعية البصرية التي لازالت تعتبر في رأي من يستخدمها صالحة للاستعمال والتأثير. فإنّ الاستفادة من أُسس بناء سابق غير بعيد عن الذاكرة ومؤثّر هو خيار أفضل وأوفر وقتًا وجهدًا من اعداد بناء جديد كلّيا وهدم ما سلف.

زر الذهاب إلى الأعلى