اخبار ومتفرقات

قبل تسليم السلاح: دعونا نذهب نحو عقد اجتماعي جديد للبنان الجمهورية الثالثة

يشغل نقاش “سلاح المقاومة” الحيز الأكبر من سجالاتنا الوطنية، وغالباً ما يتحول إلى حوار طرشان يعمّق الانقسام العمودي في بلدنا. لكن هل يمكننا أن نخرج من دائرة الاتهامات المتبادلة ونبحث بهدوء عن مخرج منطقي؟ إن مستقبل لبنان كدولة ووطن يعتمد على قدرتنا على فعل ذلك.

بدايةً، من الضروري الاعتراف بأن القلق من وجود سلاح خارج إطار الدولة هو قلق مشروع ومفهوم. فالدولة الحديثة تقوم على مبدأ أساسي وهو احتكارها الشرعي للقوة، وأي خروج عن هذا المبدأ يهدد استقرار الدولة ويقوّض سيادتها. هذا حلم كل لبناني، وهو نقطة الانطلاق لأي حوار جاد.

في المقابل، من الضروري أيضاً فهم الأسباب العميقة التي أدت إلى نشوء هذا السلاح واستمراره. لم يأتِ السلاح من فراغ، بل وُلد من رحم فشل الدولة في حماية أرضها ومواطنيها. ذاكرة اللبنانيين، وخاصة أهالي الجنوب، مليئة بقصص الاجتياحات الإسرائيلية المتكررة منذ عام 1976 وصولاً إلى اجتياح العاصمة بيروت عام 1982، في وقت لم تكن فيه قوة رادعة فعالة. لقد نشأ السلاح كضرورة دفاعية في ظل غياب البديل، ومن هذا المنطلق، تنظر إليه بيئته كضمانة أمنية لا يمكن التخلي عنها ببساطة.

إن التركيز الحصري على قضية السلاح، مع تجاهل الأزمات الوجودية الأخرى، هو تبسيط يضر بالقضية نفسها. فلبنان اليوم لا يواجه مشكلة واحدة، بل مجموعة من الأزمات المترابطة التي تشكل معاً تهديداً وجودياً للكيان بأسره:

1. : هل يمكن منطقياً مطالبة طرف بنزع سلاحه الردعي بينما لا تزال الدولة عاجزة عن تحرير ما تبقى من أرضها المحتلة، من تلال كفرشوبا والغجر إلى النقاط الخمس التي احتلتها إسرائيل مؤخراً؟ وكيف نطمئن بينما حدودنا تتعرض لانتهاكات شبه يومية؟ إن السيادة لا تتجزأ.

2. : يرزح لبنان تحت عبء نزوح سوري هائل يفوق قدرته الاقتصادية والبنيوية. هذه الأزمة التي تؤثر على كل لبناني، تستهلك مواردنا وتضغط على خدماتنا وتهدد نسيجنا الاجتماعي. فهل من العقلاني تجاهل هذه القنبلة الموقوتة والتركيز فقط على السلاح؟

3. : يعيش اللبنانيون أزمة اقتصادية خانقة أفقدتهم مدخراتهم ومستقبلهم. في ظل هذا الانهيار، كيف يمكن إقناع شاب في بيئة المقاومة بالتخلي عن السلاح الذي قد يوفر له شعوراً بالكرامة، دون تقديم بديل اقتصادي واجتماعي حقيقي؟

إن المطالبة بتسليم السلاح دون تقديم بدائل وضمانات هي دعوة إلى الفراغ، والتمسك به إلى الأبد هو تكريس للانقسام. الحل يكمن في “صفقة وطنية متكاملة” تؤسس لجمهورية ثالثة قوية وعادلة، وتجيب على الهواجس المشروعة للجميع.

إن الهاجس الأمني هو هاجس حقيقي. والتجربة الأخيرة في السويداء، حيث تعرض المجتمع الدرزي وهو مسلح بالأسلحة ومنها الثقيلة ورغم وعورة جغرافيته والتدخل الإسرائيلي للدفاع عنه، إلا أنه خلال هجوم مسلح من قبل التكفيريين سقط خلال ساعات فقط، آلاف من القتلى والجرحى والمخطوفين الدروز، وأدى إلى تدمير وسرقة وإحراق القرى وحتى جزء من المدينة، مما دفع بالمجتمع الدولي إلى إعلان أن السويداء منطقة منكوبة. 

ما حصل في السويداء يذكرنا بأن القوة الذاتية قد لا تكون وحدها كافية. لكن بالمقابل أيضاً تنبه السلطة أنها بحاجة إلى كل مفاصل القوة الوطنية حتى استقرار المنطقة، مما يلزم بأن أي حل لمسألة السلاح يجب أن يكون جزءاً من حزمة متكاملة تشمل:

• يجب أن تقدم الدولة، مدعومة بالتزام دولي واضح، ضمانات بحماية قيادات المقاومة وعناصرها من أي استهداف إسرائيلي مستقبلي. وفي المقابل، توضع استراتيجية جديدة تكون فيها الدولة هي المسؤول الوحيد عن أمن لبنان وشعبه. لذلك، يجب أن تكون هذه الاستراتيجية قادرة على الإجابة على سؤال جوهري: كيف ستحمي الدولة سيادتها، وتضمن أمن مواطنيها في قراهم الجنوبية، وتمنع استهدافهم بشكل يضمن السيادة الكاملة للدولة اللبنانية وحدها؟

• لا يمكن للبنان أن ينهض ومكون اساسي منه معزول. لذلك يجب ان يكون هناك جزء من الضمانات هو إعادة دمج الطائفة الشيعية، في محيطهم العربي خاصة مجلس التعاون الخليجي وشطب حقبة الماضي، وتفعيل الحوار مع سوريا عبر تفاهمات ترعاها الدولة حيث يطبق حياد لبنان بكل شيء وعلى أسس صلبة.

• يجب إطلاق خطة نهوض اقتصادي تركز على استخراج ثرواتنا من النفط والغاز، وتستثمر في بناء المصانع وتوفير فرص العمل، خاصة في المناطق التي تحملت العبء الأكبر للمواجهات، لتقديم بديل حقيقي عن الاقتصاد العسكري.

• لا استقرار في لبنان دون معالجة شاملة لملف النزوح، عبر خطة وطنية واضحة ومجدولة زمنياً لتنظيم عودة آمنة وكريمة للنازحين إلى بلادهم.

خاتمة: 

إن هذه النقاط ليست شروطاً تعجيزية، بل هي أسس منطقية لبناء الثقة. فالتاريخ الحديث أثبت التزام المقاومة بضبط النفس كما التزمت بالماضي بكافة تعهداتها، رغم التضحيات الجسيمة، يفتح الباب أمام إمكانية الحل السياسي.

تسليم السلاح ليس مجرد عملية تقنية، بل يجب أن يكون التتويج الطبيعي لمسار طويل من بناء الدولة واستعادة الثقة. إنه النتيجة وليس الشرط. عندما يشعر كل لبناني، بمن فيهم من حمل السلاح يوماً للدفاع عن أرضه، بأن هناك دولة قوية وعادلة وقادرة على حمايته وتأمين مستقبله، سيصبح السلاح عبئاً لا حاجة له. دعونا ننتقل من منطق “من يتنازل أولاً؟” إلى منطق “كيف نبني معاً؟”، فهذا هو السبيل الوحيد لخلاصنا جميعاً والتقدم والازدهار.

المقال يعبر عن رأي الكاتب وليس رأي الموقع، شكرا على المتابعة.

زر الذهاب إلى الأعلى